لو جاز لي أن أصف الصحف السعودية لقلت إنها مؤسسات حكومية مسموح لها بالتجارة الإعلانية لتمويل نفقاتها الجارية والرأسمالية إلى جانب الإعانة الحكومية. يقف على باب كل مؤسسة حاجب يسمى رئيس التحرير، يحجب ما يرى أنه غير ملائم للنشر ويسمح بالباقي، معياره في ذلك وأدوات قياسه للممنوع والمسموح هو ما يتلقاه من تعليمات مباشرة من الوزير الذي يرأس الوزارة التي ترتبط بها إعلامياً كل الصحف المحلية وهي وزارة الثقافة والإعلام، وتدخل على الخط أحياناً وزارة الداخلية. فالحاجب -أقصد رئيس التحرير- هو من جهة ملزم بالقيد الإعلامي والرسمي القوي المستتر، ومن جانب آخر يحاول تمرير بعض المقالات التي تحاكي الواقع والحقيقة وتنشد الإصلاح تجاوباً مع الرأي العام الذي لم تعد معدته قادرة على هضم الطعام المملوء بالدهون المخالفة للمعايير الصحية، ولم يعد عقله وضميره قابلين لغير المعقول، ولم يعد قادراً على إغماض عينه لكيلا ترى النور. أنا لا أستطيع الحكم بالشفقة عليه أو العجب منه، فلم أسمع برئيس تحرير رفض المهمة إلا بشروط، وأظن أن المُعيَّن منهم في هذه الوظيفة شغوفٌ بها متمنٍّ لها كما هي حال وزرائنا. الكاتب أياً كانت المساحة التي يطل منها على القراء، فإنه يعمل ضمن نطاق من حرية الرأي المتاحة. حرية الرأي هذه لم تعد ترفاً وإضافة حسنة للشعوب التي تتمتع بها، بل أصبحت معياراً مهماً وأساساً في تكوين وقياس حضارتها. المعيار الحضاري للشعوب يختلف الفلاسفة في تحديده وتعريفه، كما أنه بحكم طبيعته غير المادية لا يخضع للتقنين والتحديد الكمي. لكن، وإن اختلف المنظرون في بناء مقياس كمي للمعيار الحضاري، فإنهم يتفقون على المكونات الأساسية لهذا المعيار. حرية الرأي المتاحة للجميع هي أحد المكونات الأساسية للمعيار الحضاري في أي دولة. القراءة التاريخية تقول إن الدول المتقدمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً هي دولٌ حرية الرأي فيها تنعم بمساحات وفضاءات كبيرة جداً، المساس بها كماً أو نوعاً هو من قبيل المحرمات عرفاً وقانوناً. لا أعتقد أن القول بأننا في المملكة العربية السعودية لا نملك ذاك الفضاء من حرية الرأى يحتاج إلى حجج وإقناع، حتى أولئك الذين يمتهنون تقليص الحقائق يعرفون في قرارة أنفسهم أنهم يكذبون على أنفسهم أولاً وعلى عباد الله ثانياً. أنا شخصياً أعتقد أن دائرة حرية الرأي عندنا بقطرها ومحيطها هي دائرة ضيقة. لاشك أن الضيق والاتساع في مفهوم حرية الرأي فيه شيء من النسبية، فما هو ضيق بالنسبة لي قد يكون واسعاً فضفاضاً عند غيري. إذا تجاوزنا التأسيس المبدئي بأن حرية الصحافة هي مكون أساسي لحرية الرأي في المجتمعات الحديثة، وأن حرية الرأي هي جزء أصيل من حرية الإنسان، وأن حرية الإنسان هي من الحقوق الأساسية للإنسان أياً كان وفي أي مكان، يبقى لدينا موضوع النسبية التى يجب أن تكون لها مرجعية موضوعية يمكن القياس عليها حتى لا يكون هوى الإنسان هو الأساسي. المرجعية في نظري هي حجم وأهمية القضايا المصيرية التي تواجه الأمة، والتي لابد من إيجاد حلول ناجعة وقابلة للتنفيذ لها لكي تسير الأمة بخطوات أقوى وأسرع على طريق التقدم الحضاري الإنساني. وهذا يتطلب حجماً ومساحة من حرية الرأي تسمح بطرح صريح مباشر غير مدغم أو مبهم لقضايا الأمة المهمة والمصيرية وذات الحساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دون خوف أو وجل من غضبة حاكم أو تكفير من رجل دين ما دام الطرح ملتزماً بالثوابت الدينية والأخلاقية للأمة. أعتقد أن قضايانا السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها المجتمع السعودي اليوم هي قضايا من النوع الجوهري والحجم الرئيس الذي يتطلب صدقاً وصراحة في الطرح والشرح والتحليل، وهذا من الناحية العملية لن يتأتى إلا باستنهاض كل القدرات والإمكانات الوطنية، الأمر الذي لا يمكن أن يتم بشكل فاعل ومفيد إلا بفتح المجال واسعاً لحرية الرأي. حرية الرأي هي النهر العظيم الذي تصبّ فيه كل الينابيع الوطنية، ومن هذا النهر تستقي الدولة والأمة حلولاً لقضاياها وبرامج وخططاً لمستقبلها. النهر هذا هو فكر الأمة الجمعي بقيادة فلاسفته ورجال دينه وعلمائه ومثقفيه من الرجال والنساء. نهرٌ لا يمنع أي وادٍ كبر أو صغر أن يصبّ فيه. هذا النهر لا يوقف أي ماء يرِد إليه مهما كان لونه أو طعمه إلا ما ارتأت الأمة، وليس الحاكم، أنه سامٌّ يهدد صحة الأمة وبناءها الأخلاقي. قد تقذف في النهر بعض القاذورات غير السامة، فليكن ذلك، لأن النهر الجاري يطهر الدنس عكس المياه الآسنة العديمة الحركة هديراً وهدوءاً مداً وجزراً. المهم ألا تُقطع وتُحجز مجاري السيول والوديان التي تصبّ في النهر كما قُطعت في جدة، فيختل التوازن الطبيعي للأرض ومن عليها ويأتي الطوفان وتحلّ الكارثة. حرية الرأي ألاّ لا تخيفنا لأنها تكشف الغطاء عن المستور وتُدخِل الأوكسجين إلى الأقبية فتنقي هواءها، وتوصل الكهرباء إلى الكهوف المظلمة فتنير مصابيحها. حرية الرأي تمنع تراكم الضغوط وتحمي البلاد من الانفجارات. قد تُغضِب حرية الرأي المسؤول يوماً ولكنها ستفرح البلاد وتفرحه أياماً. لم تكن المساحات الواسعة من الحرية يوماً من الأيام سبباً في ضعف الدول واختلال أمنها، بل إن العكس هو الصحيح. خنق حرية الرأي وقيدها سبب من الأسباب الرئيسة لضعف الدولة وعدم استقرارها. كل ثورات الربيع العربي على ذلك شاهدة، فلو كانت هناك حرية رأي لما تراكمت القضايا والأمور وأصبحت حطباً جاهزاً للاشتعال عند أول عود ثقاب. دول الربيع العربي قُتلت فيها حرية الرأي فقتلت هي بالتالي من قتلها والبادئ أظلم. لحرية الرأي سقوف وأعمدة، وكلما قويت الأعمدة وارتفع السقف زاد فضاء الحرية الصحفية وأسهمت الصحافة بشكل أفضل في إماطة الأذى عن الطريق وفي إنارته لكي يرى المسؤول وصاحب القرار طريقه ويبعد عن الحفر والجفر. حرية الرأي تساعد على إظهار الحقيقة المتمثلة في رأي الأمة من خلال ما تعكسه الأقلام من تناطح وتلاقح الآراء والأفكار والنظريات في فضاء واسع من حرية الصحافة. في أهل الصحافة هناك من يبحث عن الطريق المعبد الخالي من الحفر والمطبات فيسلكه لإيصال رسالته، وهناك من يختار طريقاً مطروقاً وإن لم يكن معبداً لكلمته، وهناك من لا تستهويه الطرق المعبدة ويصرّ على شق الطرق المباشرة وإن كانت تمر عبر الجبال والوديان. في صحافتنا من يرضى بالسقف المتاح ويطأطئ الرأس أحياناً لكي يعبر، وهناك من يكتب من أجل أن يرفع السقف إلى أعلى ولو سنتيمترات. كلهم له دور يؤديه، فالوطن في حاجة لكل الأصوات والأقلام المؤمنة بأن لديها رسالة تخدم مصلحة الأمة ورُقيّها، لكن الوطن أحوج ما يكون إلى الذين يرفعون السقوف المنخفضة ويفتحون الطرق الصعبة من أجل فضاء أوسع وأعلى لحرية الرأي.