يمكنك أن تصمت أحيانا، في حياتنا آلاف المصابين بلوثاتٍ عقلية ونفسية واجتماعية، خلطة «اضطراب» لا تنتهي من حول الإنسان، ومشاكله وانشغالاته وهمومه كفيلة بصده عن هذه المشتتات، هناك ما يجعلك في غنى عن الالتفات لهذه الأشياء، لكن هذا لا يحدث دائماً، ولا يجب أن يحدث في بعض الحالات، حين يمكن للاستثناءات غير السوية أن تصبح مشاعا و «فكرا» بين الناس. مع بدايات القرن الثامن عشر ظهرت الوهابية في نجد، وهي حركة دينية سياسية اجتماعية ولدت من رحم التحالف المعروف بين محمد بن سعود (مؤسس الدولة السعودية) ومحمد بن عبدالوهاب، والذي أفضى إلى قيام الدولة السعودية الأولى والثانية وصولا إلى الدولة السعودية الحديثة، وكانت عملية إعادة إنتاج العلاقة بين ما هو ديني وسياسي أبرز الآثار التي خلفها لنا هذا الحدث التاريخي، بخلاف الآثار السياسية والاجتماعية والدينية الأخرى التي تنعكس على حياتنا المعاصرة. إن النظام السياسي القائم على الدمج الظاهري والكلي بين السياسة والدين، والفصل الضمني والقطعي بينهما، هو العنوان الرئيس لتلك المرحلة، بقية الأمور تفاصيل ثانوية مرتبطة بهذه الفكرة الرئيسية. قبل ولادة الوهابية بقرنين كان التنازع بين الديني والسياسي على أشده في أوروبا، ظهرت بواكير الفكر الليبرالي في ذلك الزمن، الاستفهام الرئيسي حول ماهية الحكم وشرعيته، وخطوط التماس بين الدين والسياسة، حقوق الفرد وحرياته، وقد أنتجت الحركة الليبرالية مفكرين عظماء وفلاسفة وعلماء اجتماع، وفجرت حركة فنية وثقافية وعلمية حيوية ومؤثرة على الإنسانية بكل معنى الكلمة، بخلاف الحركة الوهابية التي أسهمت في تعطيل العقل الديني، وقامت على مبدأ تمجيد السياسي ورجل الدين التابع له فقط، وأنتجت أكبر وهم متعلق بالخوف على الدين من الضياع ووجوب حمايته ورعايته، ومن طرف واحد فقط، ويمكن الاطمئنان لسلامة الاستنتاج الذي يرى أن أي إنتاج لباحث جاد في العلوم الشرعية، يفوق بمراحل كل ما تركه مؤسس الحركة من أثر علمي! لا أعقد هنا مقارنة بين الحركتين الليبرالية والوهابية، الظرف الموضوعي مختلف تماما، لكن أدنى ما يمكن استنتاجه من الفكريْن هو التناقض المطلق، تجد ذلك في كل تفصيل من التفاصيل، الحرية ومركزيتها وشرعية الحكم والحاكم وحقوق الفرد والعلاقة بين مكونات المجتمع وحدود الرقابة ومنظومة القيم والحيز الخاص والعام.. إلخ، ومن هذا المنطلق نتساءل عن العبقرية الفذة التي استطاعت الدمج بين هذين المنهجين المتضادين بشكل صارخ، وجعلت منهما منهجا واحدا، ورفعت لواء المطالبة بهما ب «انتقائية مقيتة»، ودون قدرة على التنبؤ متى يجب أن يكون «الفرمان» الوهابي لازماً، ومتى يكون للفكرة والمطلب الليبرالي صفة الواجب والضرورة! طوعت نفسي على محاولة احترام الجميع، المتدين الذي يُلزم نفسه -وغيره أحياناً- بكل ما يعتقد أنه صحيح، والليبرالي الذي يُلزم نفسه -وغيره أحياناً- بالفكاك عن كل ما هو غير صحيح في نظره، نحن جميعا نحترم الصادق في توجهه، المدافع عنه قناعة وإيماناً واعتقاداً بأنه الحق، نفعل ذلك وإن كنا نراه مخطئا مجانبا للصواب، وأنا هنا أسجل كامل احترامي للوهابي الملتزم بوهابيته، والليبرالي الملتزم بفكرته، وإن شابتهما نواقص كثيرة، لكني أعجز عن فهم أولئك الأشخاص وتلكم المنظومات الفكرية التي تمارس خلطاً انتهازيا ومقصوداً بين الأمرين، بغرض تحقيق مصلحة ما والحفاظ على مكتسبات قائمة، أو يُرجى نيلها. مع التشكيل الأخير لمجلس الشورى في السعودية، يمكن أن نلحظ أبطال المقال بكل وضوح، ظهر تياران واسعان وقد تأثرا سلبا وإيجابا بتعيين المرأة عضواً في المجلس، الأول عبر عن امتعاضه الواضح من وجودها لأسباب كثيرة ومعروفة، أهمها رؤيته الخاصة والمتوهمة للدولة وفكرتها وطريقة إدارتها ومرجعيتها، ومكانته فيها، وهو لا يلام على هذا الفهم المنصوص عليه في تاريخ الدولة وأدبياتها، أما الآخر فكانت فرحته غامرة بهذا النصر الجزئي الذي حققه «تياره» المتوهم، وهو بانتظار ما يمنح له في قادم الأيام، لم تطرح مسألة صلاحيات المجلس وشرعيته ومرجعيته وإلزاميته وحدود عمله، الطرفان لا يوليان هذا الأمر أهمية، بل إنهما يتوحدان عادة -أو دائماً- في مواجهة أسئلته وعداوة أصحابها! هذا ليس سلوكا أو موقفا فرديا تجاه الأحداث، إنها منظومة فكرية تسير بانتظام ودقة شديدين، وفي المرة القادمة بعض الشواهد على حياة بطلنا، الليبرالي الأول والوهابي الأخير.