في كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، يقول مؤلفه عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله: (الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مُطيع، والمُشتكي المُتظلم مُفسِد، والنبيه المُدقق مُلحد، والخامل المسكين صالح. ويُصبح كذلك النُّصْح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتوّا، والحميّة حماقة، والرحمة مرضاً، كما يعتبر أن النفاق سياسة والتحايل كياسة والدناءة لُطْف والنذالة دماثة.) وكثير للأسف الشديد على مر التاريخ يسوق هذه المغالطات بحماس وهمة ناتجة بالطبع عن جهل مركب أو مصلحة قائمة لا يريد التفريط فيها. وآخرون يريدونها دائما عوجاً خشية أن يزول الاستبداد ويؤول الأمر إلى من لا يحبهم ولا يحبونه، مع يقينهم أن الخصم الذي آل إليه أو سيؤول إليه الأمر خير من المستبد الزائل وأن ما بين العهدين ما بين الثرى والثريا، لكنها للأسف الشديد قلوب عليها أقفال صدئة يصعب فتحها، وربما استحال. وهؤلاء يفجرون في الخصومة فجور من لا يخشى حساباً ولا عقاباً، وكأنها بالنسبة لهم معركة حياة أو موت. وهو إذاً لا يلتزم بآداب حتى وإن زعم تقديسه لها قبل حين، ولا يخضع لقانون حتى لو كان أول المطالبين به في عهود الاستبداد... يكذبون الكذبة ثم يطالبون الناس بتصديقها، فإن لم يفعلوا نددوا بهم وجرّموهم ووصموهم بما لا يليق ولا يجوز. ومع أن صور الاستبداد الخارجي متعددة ومؤلمة، لكنها في عمومها متوقعة، فأولئك لا يراعون في مؤمن إلاً ولا ذمة، وهم لا ينجحون عادة إلا باللجوء إلى طابور خامس يعبث من خلاله المستبد الخارجي بمقدرات الأمة وبكرامة شعبها وبثروات أوطانها. استبداد الداخل الذي رزئت به العديد من الدول الاسلامية هو أشدها سوءا، ورجاله الذين يسوقون له أو يتباكون على زواله هم العدو. هؤلاء يرتدون أحيانا ثوب الواعظ المشفق وأحيانا ثوب المثقف العارف، وفي أحيان أخرى ثوب العصري المتفتح. هؤلاء (يلحسون) كل الشعارات التي كلّت أيديهم وهم لها رافعون، وبُحت حناجرهم وهم بها ينشدون. الحقيقة المرة أن هؤلاء يتكررون عبر التاريخ منذ نوح عليه السلام، وحتى قيام الساعة، لذا من العجب التعجب من مواقفهم، بل الواجب الشفقة على حالهم ومآلهم.