قبل عام، بدأت مشواري الجميل بكتابة المقال على صدر هذه الصحيفة الغراء التي تُعتبر الابرز محلياً وعربياً، محملاً بخبرة عقد من الزمن في كتابة المقال في عدة صحف سعودية. "عام عربي بامتياز"، كان مقالي الاول الذي صافحت به قراء هذه الصحيفة الرائعة، بل وكل القراء على امتداد الوطن، خاصة في ظل هذا التطور الهائل في وسائل ووسائط التقنية والإعلام الجديد. لقد اتاح هذا الانفجار المعلوماتي والتقني الكبير للقارئ، وبضغطة زر بسيطة الوصول إلى كل مصادر ومنابع الاخبار والأحداث والآداب والفنون والثقافات. تحد كبير جداً، تواجهه المؤسسات الصحفية التقليدية نتيجة التغيرات والتحولات الكبرى التي نسفت تقريباً كل الاعراف والتقاليد والأساليب والأشكال والأدبيات الاعلامية التقليدية. انه عصر الصحافة الرقمية بكل ادواتها وآلياتها ومفاهيمها الحديثة. مر عام 2012 سريعاً كطبيعة كل الاشياء في هذا العصر العجيب، ولكنه كان عاماً استثنائياً وحافلاً بالكثير من التفاصيل الدراماتيكية المثيرة وعلى كافة الصعد، السياسية والاقتصادية والإنسانية. لقد شهد العام المنصرم الكثير من التحولات والتطورات الكبرى التي ستشكل علامة فارقة في خارطة العالم، لاسيما العالم العربي الذي يمر بمرحلة تشكُل وصياغة جديدة للكثير من افكاره ونظمه وأحزابه وتياراته. ويبدو أن عام 2013، والذي أطل علينا قبل عدة أيام، سيشهد غربلة حقيقية لذلك الارث السياسي والفكري والديني والثقافي الذي سيطر على الواقع العربي لعدة عقود، ما جعله يقبع في دائرة الظل . أحاول أن أكون متفائلاً ما استطعت، ولكن الواقع الراهن بحاجة إلي توصيف دقيق وأمين وشفاف. ولكن، ورغم مرارة الحقيقة وصعوبة الواقع، لابد من مواصلة السير باتجاه المستقبل بكل تعقيداته وتحدياته... وهل نملك غير ذلك؟ أن تكون كاتباً للمقال في الصحافة، عنوان طويل ومعقد، ولكنه أقل بكثير من حجم المعاناة والألم والوجع الذي تواجهه شريحة ليست بالقليلة - كتّاب المقال - تُمارس هذا الفن الصحفي المحفوف بالمخاطر والشكوك والاتهامات. والكتابة على وجه العموم، مهنة صعبة وشائكة وخطرة، تختلف كثيراً عن غيرها من المهن والحرف والهوايات. يقول جابرييل جارسيا ماركيز الروائي الكولمبي الشهير، صاحب رواية "مائة عام من العزلة"، والحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1982: " الكتابة مهنة انتحارية، إذ لا مهنة غيرها تتطلب قدراً كبيراً من الوقت، وقدراً كبيراً من العمل، وقدراً كبيراً من التفاني مقارنة بفوائدها الآنية". أما الشاعر السوري عادل محمود فله مقولة مثيرة حول الكتابة، إذ يقول: "الكتابة أصعب مهنة في التاريخ باستثناء صيد التماسيح". هل حقاً، مهنة الكتابة بهذه الصعوبة؟ وكتابة المقال في الصحافة، باعتباره أحد أهم الاشكال الصحفية، مهنة ذات صعوبة بالغة، ويحلو لي دائماً أن اشبّه كاتب المقال بلاعب السيرك الذي يسير على حافة سلك رفيع جداً، ويواجه الكثير من الصعوبات والتحديات، أهمها عدم السقوط، والتوازن الدقيق، والقيام بحركات جديدة كل مرة، وطلب التصفيق والدعم من الجمهور إضافة إلى اهتمامه الشديد بوظيفته الاساسية وهي امتاع الجمهور الذي دفع اموالاً مقابل فرجة شيقة. تماماً، ككاتب المقال الذي يواجه سلسلة طويلة من المحاذير والممنوعات والاعتبارات والرقابات والترصدات، وعليه في كل مرة، أن ينجح بنشر مقاله. كاتب المقال هنا، كلاعب السيرك هناك، يجب أن لا يفقد تركيزه وأخلاقياته ومهنيته وشفافيته واستمراريته. هذه هي حقيقة كاتب المقال! نعم، لم تعد الرقابة بمختلف اشكالها ومستوياتها كما كانت سابقاً، ولكنها انحسرت كثيراً، رغم أننا جميعاً نطالب بالمزيد من أجواء الحرية والجرأة والشفافية، لأنها الضمانة الحقيقية لوجود إعلام حقيقي ومؤثر يعكس واقع المجتمع . نعم، هناك رقابة رسمية ومجتمعية وفكرية ودينية، ولعل أخطرها على الاطلاق الرقابة الفكرية التي تُمارسها بعض التيارات المتشددة وفي طليعتها التيار الديني المتشدد الذي يتربص ويترصد لكل كاتب أو مثقف خارج عباءته السوداء الظلامية. بالنسبة لي، لا أهتم كثيراً بكل تلك الرقابة التي تُمارس ضد الكاتب، لأنها خارج قدراتي المهنية. فقط، أنا أهتم كثيراً، بل قد يصل بي الامر لحد الخوف، بالقارئ، مهما كان هذا القارئ، مثقفاً أو مسيّساً أو مؤدلجاً أو مجرد قارئ بسيط. فالقارئ، هو الرصيد الحقيقي الذي نفخر به نحن معشر الكتّاب، أو هكذا يُفترض. ولأن الكاتب، هو لسان المجتمع وضميره النابض ومرآته العاكسة، فإن القارئ يُحمله مسؤولية كبيرة لتحقيق كل آماله وأحلامه وطموحاته، ويُريده أن ينقل شكواه ومعاناته وأوجاعه لصنّاع القرار، ويتوقع منه أن يكون رأس حربة لكل طلباته ومواجهاته وتحدياته. باختصار، كاتب المقال مطالب باستمرار بكتابة الحقيقة، كل الحقيقة، تلك التي تدور في المجالس والمكاتب ومواقع التواصل الاجتماعي، كتابتها كما هي تماماً. وأيضاً، كتابة الاشياء بمسمياتها الحقيقية دون مواربة أو اعتبار . للأسف الشديد، كل تلك المواصفات الخارقة لا تتوفر إلا في شخصية "السوبرمان"، ولا أظن كاتب المقال في العالم العربي، مهما كان حجمه وموقعيته وتأثيره، يستطيع أن يكون ذلك السوبرمان الذي يتمناه القارئ . الكاتب، أو المثقف على وجه العموم، لا يملك غير قلمه الخاضع للتقويم والمراقبة الخاصة والعامة إضافة إلى بعض القناعات والأساليب والرؤى التي قد تتقاطع أو تتصادم مع العديد من الجهات والدوائر والتيارات، وقد يكون أهمها - بل أشدها - هو أنت عزيزي القارئ!..