يجب القولُ أولاً أني أختلفُ كثيراً مع المبادئ التي يقوم عليها فكرُ جماعةِ الإخوان المسلمين وأرى في بعضِ أعمالِهم الوصولية والانتهازية بأبشع صورها، إذ لا أجدُ شيئاً أقبح من الذين يتخذون من الدينِ وسيلةً في تحقيقِ أهدافِهم والوصولِ إلى غاياتِهم الخاصة، ولا أشد من الذين يتمترسون وراء قضايا مقدسة، مستغلين أن الإنسانَ بفطرتِه مجبولٌ على تعظيمِ الدينِ ورجالِه، والوثوق بهم أكثر من غيرهم ظنَّاً أن كل ما كان ظاهرُه متديناً هو من ورثةِ الأنبياء بغضِ النظرِ عن أي شيءٍ آخر، ولستُ أنكِر على الإنسانِ أن يحترمَ كلَ من كان ظاهره التدين والصلاح، أو أطالبُه بمحاسبةِ الناسِ على نياتِهم، إنما أُنكر أشد الإنكار على أولئك الذين تسلطوا على رقابِ الناسِ باسم الدين فأثْرَوا على حساب الفقراء، وأكلوا أموالَ اليتامى والبائسون، وحصلوا على أشياء ما كان لهم الحصولُ عليها، ووصلوا إلى أشياء ما كان لهم الوصولُ إليها، وحرموا أناساً من أشياء ما كان لهم أن يُحرَموها، ففتنوا الناسَ في دينِهم وزعزعوا إيمانَهم معتقدين أن كلَ ما يُرتكب باسم الدين هو بالضرورةِ من الدين، بعد أن وجدَ الناسُ صعوبةً في الفصلِ بين الدينِ العظيمِ الذي هو من عندِ اللهِ تعالى والذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفِه، وبين أولئك الانتهازيين الذين وجدوا فيه وسيلةً للوصولِ إلى أهدافِهم وتحقيقِ غاياتهم، متخذين من كتابِ الله تعالى وسنةِ رسولِه الكريم صلى الله عليه وسلم سوطاً يجلدون به عبادَ الله، وطريقةً في إقصاءِ المخالفين والتشكيكِ في ذممِهم ونياتهم بل وتكفيرهم إن لزِمَ الأمر! حتى بغَّضوا الصالحين فعلاً بعدما لبسوا لبوسَهم وقالوا مثلَ قولِهم، فتحقق فيهم قول الغزالي (رحمه الله) «إن انتشارَ الكفرِ في العالمِ يحملُ نصفَ أوزارِه متدينون، بغّضوا الله إلى خلقِه، بسوء طبعِهم وسوءِ كلامهم». غير أني على الرغم من ذلك، لا يمكنني القولُ إن كلَ ما يأتي به الإخوان المسلمون سوءاً خالصاً وشراً محضاً ونيةً فاسدة، فلستُ من الذين يؤمنون بالأحكامِ المطلقةِ ولا من الذين ينظرون إلى الأشياء بمنطقِ الحَسَنِ كُلِه والسيئ كُلِه، وفي اعتقادي أن جماعةَ الإخوان المسلمين وإن كانت تنطلقُ من القواعد ذاتها، إلا أنها تختلفُ في وسائلِها ومطالبِها وتعايشِها وتسامحِها من بلدٍ إلى آخر، لأسبابٍ قد تعودُ إلى عوامل التنشئةِ والبيئةِ وطريقةِ التعليم، فالجماعةُ في مصر مثلاً ومع أنها تُعدّ (الجماعة الأم) فإنه يمكن اعتبارُها (ليبرالية) إذا ما قورنت بجماعةِ الإخوان المسلمين في بلدٍ آخر، كما أن الإنصافَ يدعوني إلى الاعتراف بأن القضايا التي تناقشُها تلك الجماعةُ هي قضايا كبرى، تختلفُ تماماً عن تلك التي تناقشُها فروعُها في بلدان أخرى، التي يمكن وصفها بأنها قضايا تافهة لا يجدرُ بإنسانٍ يعيشُ في هذا القرنِ أن يناقشهَا أو يتوقفَ عندها كثيراً إلى الحد الذي يدعوه لأن ينشغلَ بها عما هو أعظم منها، كقضيةِ قيادةِ المرأةِ السيارةِ وتأنيثِ المحلاتِ النسائيةِ وما يشبهها، كما أنها جعلت من نفسها معياراً للخيرِ والشرِ ومارست دور الوصايةِ على الناسِ حتى تدخلت في أدق تفاصيل حياتهم، فكأنها تريد التدليلَ على أن مظاهرَ الغلو في أي حركةٍ حزبيةٍ لا تأتي إلا في مراحل متأخرةٍ من نشأةِ الحركة. أما صاحبُنا الفريق ضاحي خلفان، فإني أعترف باحترامِه لوضوحِه وصراحتِه، ولست أُنكِرُ أنه موغلٌ في الوطنيةِ ومخلصٌ في الولاء، لكنه في نظري أساء من حيث يريدُ الإحسان، وأخطأ من حيث يريدُ الإصابة، فمن غيرِ المعقولِ أن يحمِّل جماعةَ الإخوان المسلمين وحدها كلَ المصائب والنكبات، ومن غير المنطقي أن يتخذَ من الجماعِة مصلاً مضاداً للديموقراطية، وفزاعةً أمام الشعوبِ المطالبةِ بحقوقِها، ثم إنه ليس من الحكمةِ أن يستعدي الجماعةَ وقد وصلت إلى الحكمِ في أكبر بلدٍ عربي عن طريقِ التصويتِ وصناديقِ الاقتراع، بل كان الأجدرُ به أن يحترمَ خياراتِ الشعوبِ في تحديدِ مصيرها، فليس بالضرورةِ أن يكونَ الشعبُ قد اختار الجماعةَ لأنها الأقدرُ على تحقيقِ مطالبِه، بقدر ما يكونُ قد اختارها لأنه كان ما مِن اختيارها بُدُّ، وليَعلم صديقُنا خلفان أن كلَ شيءٍ في هذه الدنيا كالدواء إن زاد عن حده أصبح ضاراً.