لم تعد غزة الربيع العربي كغزة الأمس، يوم كان الحصار يطوقها من كل جانب، العدو أمامها، والمخذِّل وراءها يحاصرها ويضيّق عليها؛ حتى المساعدات الإنسانية يمنعها، أو يماطل في الإذن بمرورها، أما غزة اليوم فقد انزاح عنها بعض الحصار، وتوالت عليها الزيارات الرسمية الداعمة، وكان لدول الربيع العربي في ذلك الحضور الأكبر. مرّت بغزة سنوات عجاف من الحصار الخانق المطوِّق لها من كل جانب، فلم يبق إلا طريق البحر حاولته أساطيل الحرية لفك الحصار بمعونات إنسانية إغاثية محضة. من يرى تطوّر صواريخ القسام اليوم التي صارت تهدد تل أبيب والقدس لا بد وأن سيصاب بدهشة المفاجأة، فقد كان المظنون أن تضعف القدرات العسكرية لفصائل المقاومة بعد شدة الحصار، وأن يتبعها شيء من الهزيمة المعنوية؛ لكن الأمر كان مفاجئاً للعالم، وليس لإسرائيل فحسب، تقول صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية في عددها الصادر الثلثاء الماضي: «إن كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) أصبحت ذات تنظيم عالٍ ومهنية متزايدة، أصبحت تحت قيادة القائد العسكري لحماس أحمد الجعبري تتبنى أنظمة تدريب وتسلسل قيادي واضحين. الحكومة الإسرائيلية الصهيونية نفسها شعرت بالحرج والقلق البالغ جرّاء تطوّر صواريخ القسام - التي كانت مفاجأة لها - وما أورثته في نفوس الإسرائليين من هلع ورعب شديدَين، حملتْ نتنياهو أن يطالب دولاً عظمى بالضغط على حماس للتهدئة وضبط النفس!». لقد قيل ما قيل من تحليلات سياسية في مبادرة الجيش الإسرائيلي بالغارة التي استهدفت أحمد الجعبري - رحمه الله وتقبله في الشهداء - ولماذا توقيتها في هذا الوقت تحديداً!... كان مستفيضاً إذاً أن الصهاينة هم مَن بدأ بالعدوان بعد مدة ليست بالقصيرة من التهدئة، لم تكن هذه الحقيقة بحاجة إلى جهد لاكتشافها؛ غير أن المؤسف حقاً أن يكون أناس من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويعيشون بيننا، وبيننا وبينهم وشائج قربى ومواطنة غالطوا في القضية أكثر مما غالط الصهاينة أنفسهم، وقلبوا الحقائق أكثر مما قلبها أولئك، جعلوا الجزار هو الضحية، والضحية هي الجزار، حين تقرأ مقالةً لأحدهم لا تشعر بعدها إلا بحالة غثيان وامتعاض. هل هذه حالة مصادرة للآخرين أن يقولوا رأيهم في القضية؟! أو أسلوب من الإرهاب الفكري يمارس ضد الآخرين في نقدهم لحركة حماس وفصائل المقاومة؟! كلا! بل إن هذا الاستفهام الاستنكاري هو صورة أخرى من صور المغالطة المكشوفة. لم نقل: إياكم ونقد فصائل المقاومة! ولا إن الناقد لها متصهينٌ عميل. إنما قصارى الأمر: ألا تغالط في نقدك، وألا تحاول بتكلف ممجوج قولبة كل صور المقاومة في قالب العنتريات، وصورَ التأييد في قالب المزايدات. لك الحق أن تجعل نفسك في موقف متجرد متعقل لا تتلاعب به العاطفة كما تتلاعب بمن تلمزهم في خطابك؛ لكني بحق أجدك من أشد من تلاعبت العاطفة بعقله، وقلّبت له الحقائق، ففي خطابك أسلوب التهكم والسخرية بكل أشكال المقاومة وقدراتها العسكرية والسياسية، حتى صرت ترى صواريخ المقاومة مجرد ألعاب نارية عابثة؟! لكنك تتعامى عما فعلته هذه الألعاب النارية بتل أبيب، وبنتانياهو وحزبه. أكل هذا التوتر والانفعال بسبب حركة الربيع العربي التي لم ترُق لك؟! ولتحركات دول الربيع التي تراها استعراضية انتهازية؟! فما ذنب الحقيقة إذاً لتغتالها؟! في خطابك العقلاني المجرد من العاطفة العابثة تنكر على الضحية المستضعف حق الرد على أي عدوان، أو انتهاك لاتفاق الهدنة، بل تجاوزت ذلك إلى أن تجعل لإسرائيل حق الدفاع عن النفس! وتحاول أن تصور للآخرين أن فصائل المقاومة هي المتهورة، إذ بادرت بإطلاق الصواريخ كما يمليه عليك خيالك الكاذب! صارت الحرب التي هي مشنونة من طرف واحد - في خطابك - قتالاً بين طرفين متنازعين على أرض ليس لها تاريخ! كأن الأرض المغتصبة عنوة وعدواناً لا يُدرى من الأحق بها، ولو عرفنا الطارد والمطرود! في مراعاة تقدير المصلحة والمفسدة - كما في مسألة التصعيد في مواجهة الجيش الصهيوني - تختلف الآراء ما بين مؤيد لسياسة فصائل المقاومة، ومنتقدٍ لها؛ لكنه خلاف سائغ مقبول محتمل، أما أن تغالطَ الواقع وتقلبَ الحقائق لأن نقد المقاومة وتشويهها هدف تصمدُ إليه وتتوسل إليه بأية ذريعة، فهذا مما لا يجوز احتماله فضلاً عن قبوله، وعليك أن تحتمل من الناس ما يحتمله الكاذب المزور... وسوف يشهد التاريخ من سيتردى في مزبلته.