حين شاع في الأوساط الثقافية الفرانكوفونية بالخصوص عند الفلاسفة الفرنسيين الرأي الذي يقول: إن الثقافة الأمريكية لاتمتاز بالتأصيل الفكري ولا الفلسفي عن نظيراتها في أوروبا كان هذا الرأي له تقليده الراسخ بداية مع المفكر الفرنسي ألكسيس دي توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا» منذ أن نشره في أربعينيات القرن التاسع عشر، وهو كتاب يعكس جملة المشاهدات التي دونها في تلك الفترة عندما قام بزيارة أمريكا أو ما كانت تسمى بالعالم الجديد أو الأرض الموعودة، وأغلبها كانت تحتفي بالديمقراطية الأمريكية والاحتفاء التام بالحريات في سياق تشكل هذه الديمقراطية. لكنه في سياق هذا الاحتفاء أورد ملاحظة جرت مجرى التقليد لاحقا، وهي خلو المجتمع الأمريكي من الفلسفة ومن المدارس الفلسفية. ناهيك عن أن الفلسفة البراغماتية التي اعتبرت فلسفة أمريكية بحتة بوصفها فلسفة نفعية لاتميل إلى التأمل النظري التجريدي ولاتستسيغه وإنما تنظر إلى العمل وآثاره وتحولاته على المجتمع هو أساس القيمة التي تحكم التفكير والنظر، وبالتالي اعتبرت السمة العامة التي طبعت حيوية المجتمع الأمريكي، وفي هذا الإطار يقول هربرت شنيدر في كتابه «تاريخ الفلسفة الأمريكية» كما ينقل عنه الباحث محمد جديدي ذلك. «والحقيقة أن حظ الأمريكيين من الجانب النظري ضعيف وهم إلى الجانب العملي أميل... ولعل هذا -كما يقول- يفسر ظهور البراغماتية في البيئة الأمريكية دون غيرها من البيئات». ولذلك اعتبرت فلسفة أصيلة بحكم نشأتها في أرض جديدة. حيث تأسست هذه النظرية على يد تشارلز بيرس ووليام جيمس وجون ديوي. لكن هذا الأخير تطرق في حديثه عن تاريخ البراغماتية في مقاله نمو البراغماتية الأمريكية إلى تصحيح فكرة يذاع من خلالها أن البراغماتية فلسفة أمريكية محضة ويردها إلى مسارها التاريخي حينما يقر بأن بيرس أخذ كلمة براغماتية من دراسة للفيلسوف كانط في كتابه «ميتافيزيقا الأخلاق». بينما من جهته أيضا اعتبر وليام جيمس هذه الفلسفة ما هي إلا اسم جديد لطرائق قديمة في التفكير» وكان من شدة اعتزازه بهذا الرأي أن أهدى كتابه المعنون البراغماتية المنشور سنة 1907 إلى جون ستيوارت ميل بحيث كان يرى فيه الجد الأكبر للبراغماتية ضمن مجموعة أو قائمة من الفلاسفة عبر التاريخ يمكن عدهم براغماتيين». هذا التاريخ الموجز حول براغماتية الثقافة الأمريكية لايعنينا منه الجدل حول أصالتها أو انتمائها إلى الخارج إلى أوروبا تحديدا، ما يعنينا بالتحديد وفق هذا التوجه، هو طرح التساؤل التالي: لماذا استطاع المجتمع الأمريكي أن يحافظ على حيوية دور الدين داخله بخلاف المجتمع الأوروبي الذي تقلص دوره مقارنة بالمجتمع الأمريكي، رغم أن كليهما مرا بنفس مرحلة فصل الدين عن الدولة؟ والمفارقة الأكبر هنا في هذه المقارنة التي أمامنا هو أن الثقافة البراغماتية لاتنسجم من العمق مع مظاهر التدين الذي يعيشه المجتمع الأمريكي، لكنها ربما تنسجم بشكل كبير مع مختلف الفلسفات الكبرى التي طبعت ثقافة المجتمعات الغربية التي تمتاز بالبحث عن الحقيقة والاهتمام بتعقل الأشياء في ماهيتها وجواهرها. هذه المفارقة تزيد من تساؤلنا حيرة ودهشة طالما كان التعارض بين المجتمعين في ثقافتهما يرتكز بالدرجة الأولى على اعتبارهما ينتميان إلى الحضارة المسيحية بكل مرجعياتها الفكرية والفلسفية والسياسية دون اعتبار للتمايز أو مراعاة تلك التفاصيل الجزئية في مسيرة المجتمعين التاريخية. لكنها تنتفي وتزول حين ندرك تماما أن المجتمع الأمريكي كان يبني ذاكرته الثقافية على الأرض الموعودة وفق تصورين ظلا متلازمين من العمق بحيث شكلا لاحقا إحدى أهم السمات للشخصية الأمريكية، هما الحرية الفردية كقيمة مطلقة تصل حد التقديس، والخوف من المجهول في أرض ليس لها ذاكرة في الثقافة الأوروبية. هذا التلازم له وجهان يشكلان عملة واحدة، من جهة الفلسفة البراغماتية بوصفها فياضة بروح الديمقراطية الأمريكية، ومن جهة أخرى التدين الذي هو وثيق الصلة بالوعي السيكولوجي للأرض الموعودة إذا جازت لنا مثل هذه التسمية. كما ألمح إلى ذلك عدد من الفلاسفة الأمريكيين في نصوصهم الفلسفية مثل ريتشارد رورتي أو جون ديوي أو كواين. قد يبدو من جانب آخر أن هذه السمات الشخصية هي ما تعطي للديمقراطية الأمريكية فرادتها على مستوى التجارب الديمقراطية الأخرى، وتعطيها أيضا نجاحاتها مقارنة بتاريخ الديمقراطيات الغربية التي شهدت في أغلب فتراتها نكوصا وتراجعا واضطرابا مرات أخرى في توجهاتها. والسبب الواضح والجلي كما أكدنا عليه هو الانسجام في ثلاثة عناصر وهي الفلسفة، والتدين، والممارسة الديمقراطية. وحتى ندرك فاعلية هذا الانسجام في بناء الديمقراطية والمحافظة على مكتسباتها، يمكن الاستشهاد بتجارب ديمقراطية أخرى لايوجد في مجتمعها مثل هذا الانسجام. التجربة الديمقراطية في جنوب إفريقيا أحد الأمثلة على ذلك، رغم الفارق الكبير بين التجربتين. لكن ما يهمنا هنا هو رصد الأثر في اختلال أحد العناصر الثلاثة على بناء الديمقراطية. نحن نعلم أن بناء الدولة في جنوب إفريقيا قام على التطهير العرقي، وأن بناء الديمقراطية لم تبدأ قبل ثورتها في الثمانينات فقط. وأيضا تصعب المقارنة هنا إذا راعينا شرط الفلسفة. لكن المفارقة التي نريد التركيز عليها هنا هي كيف أدى التدين في التجربة الديمقراطية الأمريكية إلى فاعليتها وقوتها بينما أدى التدين الشعبي إلى تهديد الديمقراطية في جنوب إفريقيا. هذه هي الخلاصة التي استنتجها العالم الإنثروبولوجي آدم آشفورت حيث أكد أن «السحر ومزاولوه يهددون وجود الديمقراطية التي اكتسبت بصعوبة في البلاد». كيف ذلك؟ انتشار السحر بين السكان باعتباره أحد المكونات الرئيسة في ثقافتهم جعل منه معوقا في طريق علاج أعظم المشاكل التي تعانيها دولة مثل جنوب إفريقيا، فمشكلة مرض نقص المناعة الإيدز يشكل تهديدا حقيقيا في تنمية الدولة وقوتها في بناء الديمقراطية. الأغلب من السكان يعتقدون أن سبب المرض راجع إلى السحر، وأن استخدام القوى السحرية فقط هو الذي يستطيع في اعتقادهم التغلب على هذا المرض. النخبة المثقفة والساسة هناك يعانون في حل هذه المشكلة بين أمرين: إما أن تسعى للقضاء على السحر والسحرة بالقوة وهو يُعد تعديا على حقوق الإنسان وخصوصيته والقانون، وإما تمارس الدولة سياسة القضاء عليه من خلال الوعي بمخاطره ومن خلال مؤسسات التعليم، في هذه الحالة ستتهم الدولة بالتهاون وبالتحالف أيضا مع هذه العقائد الراسخة التي تهدد الديمقراطية الناشئة في هذا البلد. ربما لانذهب بعيدا لو تعرضنا أيضا إلى التجربة الديمقراطية للهند، على اعتبار أن هذا البلد المتنوع والهائل في عدد سكانه وفي تعدد قومياته وإثنياته، فكيف استطاع أن يحافظ على ديمقراطيته دون الانزلاق إلى مهاوي فخ الديكتاتورية أو إضعافها، ما هو السر في ذلك إذا ما تم مقارنتها بالديمقراطيات الأمريكية من حيث الاستقرار والقوة؟ تحتاج منا مقالة أخرى.