من المصطلحات المثيرة للجدل بين أوساط المثقفين في هذه الأيام مصطلح "العلمانية" فالمتطرفون يرون أن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، بينما يرى المعتدلون أن العلمانية لا تدعو إلى فصل الدين عن الدولة وأن أي مشروع سياسي هو خلطة بين الدين والسياسة، ولا يمكن فصل الدين عن السياسة وبالذات الدين الإسلامي الأقوم، لأن الدين الإسلامي يدخل في كل تفاصيل حياة الإنسان المسلم وفي كل سلوكياته. وأزيد على ذلك أن قيام الدول بالبحث عن حلول لمشاكلها الاقتصادية.. يعتبر من صميم تدخل الدين في السياسة، لأن الرزق من عند الله، والله خلق الإنسان لعمارة الأرض، كما أن الدين الإسلامي يحث الحاكم على البحث عن حلول لمشاكل الأمة، ولم يكن الدين، وبالذات الدين الإسلامي بعيداً عن قضايا الأمة قط، بل إن الدين الإسلامي يكلف الحكومات بالدخول في صميم القضايا التي تعانيها المجتمعات الإسلامية، ويطالبها بوضع أنجع الحلول لها، فإذا كانت المشاكل هي مشاكل اقتصادية فإن الدين الإسلامي يعالج مشاكل الفقر ويعالج مشاكل البطالة ويعالج مشاكل انخفاض الدخل الفردي وانخفاض الدخل الوطني، بل يعالج مشاكل التنمية المستدامة بعامة، وأكثر من هذا فإن الدين يطالب بعمارة الأرض وكفاية المجتمع الإسلامي، ولذلك فإن الحديث عن المجتمع المسلم بعيداً عن دينه أمر غير مقبول إطلاقاً. وكنا في الجامعة العربية نتعرض إلى بعض المواقف المستفزة، ففي أحد مؤتمرات وزراء الاقتصاد العرب الذي كان منعقداً في الجامعة العربية بالقاهرة، وبينما نحن منهمكون في قراءة جدول الأعمال وإذا بأحد أعضاء وفد دولة عربية شقيقة يتقدم إلي ويسألني بصورة مستفزة: هل أنت علماني؟ وارتفع حاجبي إلى أعلى في استغراب وقلت بسرعة قبل أن تلجمني المفاجأة: لماذا هذا السؤال؟ فقال وكأنه يستعجل الإجابة. إن البعض من الذين يسمون أنفسهم بالإسلاميين يتهمون كل من يحضر حولية هذا المؤتمر بأنه علماني، وإن المؤتمر يناقش قضايا علمانية، وإن مظلته هو الاقتصاد الغربي وليس الاقتصاد الإسلامي. قلت له بعد أن استرددت أنفاسي: أنت تخلط بين كل شيء.. بين السياسي والاقتصادي، وبين الديني واللاديني وبين العرقي والكوني، إن هذا المؤتمر يناقش قضايا اقتصادية بحتة بعيداً عن السياسة وبعيداً عن العرقية والمذهبية، نحن نبحث عن وسائل زيادة الناتج القومي وعن النظام الجمركي الموحد، ونبحث عن أسس قيام السوق العربية المشتركة، ونبحث عن أسهل الطرق للقضاء على البطالة في عالمنا العربي، ونبحث عن الصيغ الاقتصادية المؤدية إلى كل ما يفيد مجتمعاتنا العربية، وأرجو أن تقرأ جدول الأعمال جيداً قبل أن تتوه في براثن ولجج العلمانية التي لا تحسن فهمها ولا مفهومها! فقال الأخ: أنتم تبحثون كل القضايا الشائكة من خلال مبادئ الاقتصاد الغربي، والاقتصاد الغربي يقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة! وعدت مرة أخرى إلى جدول أعمال المؤتمر وقلت له: إن مفهوم العلمانية بعيد جداً عن مضامين الموضوعات التي نبحثها فلا تخلط بين الذاتي والموضوعي، كما أن فصل الدين عن الدولة مقولة لا يقولها العلمانيون المعتدلون. ولقد اتضح من خلال الملاسنة التي فاجأني بها محدثي أن المشكلة الأساسية في الحديث عن العلمانية هي مشكلة في المفهوم، وليست في العلمانية نفسها. إن مصطلح العلمانية في الأصل هو نسبة إلى المدنية Secularism أو نسبة إلى الحكم المدني، وفي القرون الوسطى بدأ العلمانيون في الغرب يطالبون بتقليص سلطات الكنيسة ومنح السلطات لحكم مدني يأتمر بقوانين وضعية تتناسب مع مستجدات عصر النهضة، وهكذا فإن العلمانية نشأت في الغرب وصيغت كمقابل مناهض ل"المقدس" الذي لا يقبل التغيير عند الكنيسة، ونقطة البدء أن أنصار العلمانية رفضوا سلطة الكنيسة (المقدسة) وبشروا بعلمانيتهم التي تولت مسؤولية القضاء على العصور الوسطى المظلمة والدخول في عصر النهضة الأوروبية. وهكذا بدأت الحرب بين الكنيسة والدولة المدنية، وهذه الحرب أفرزت المفهوم الخاطئ عن العلمانية، فالعلمانية ليست هي الفصل بين الدين والدولة، وإنما هي الفصل بين الدين والكنيسة، بدليل أن العلمانية تعترف بالحريات الدينية للجميع، وطالما أنها تعترف بالحريات الدينية، فإن الدين يعتبر جزءاً لا يتجزأ من قضايا الإنسان المعاصر، ولذلك فإن هناك فرقا كبيرا بين الفصل بين الدين والدولة، والفصل بين الدين والكنيسة. والمسلمون للأسف استخدموا مفهوم العلمانية كما ورد إليهم من رحم الكنيسة، ولم يفهموه من خلال اعتراف العلمانية بالحريات الدينية. ولا شك أن اعتراف العلمانية بالحريات الدينية يفتح الباب أمام الأديان كلها كي تكون جزءاً لا يتجزأ من القضايا الملحة عند الإنسان في كل زمان ومكان. أي أن الاعتراف بالحرية الدينية يعطي الحق للدين الإسلامي أن يكون القاعدة الأساسية للأنظمة السياسية في الدول الإسلامية، كذلك يعطي الحق لكل الدول أن تقيم أنظمتها السياسية وقوانينها إذا شاءت على مبادئ الدين. وبهذه المناسبة حينما اتهم منافسو مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق بالعلمانية أجابهم قائلاً: إنني مسلم علماني، ومهاتير محمد لا يريد أن يقول إنه علماني، ولكن يريد أن يأخذ من العلمانية الجانب الذي لا يتعارض مع الدين الإسلامي الأقوم. ولذلك من العبث القول إن الدين ينفصل عن الدولة أو عن المجتمع، ومن السذاجة القول إن السلوك الاقتصادي والسلوك السياسي في أي مجتمع لا يقوم على سلوك ديني وأخلاقي، بل بالعكس السلوك الاقتصادي والسياسي يقومان على مبادئ العقيدة والأخلاق ولا يمكن أن نتصور إصلاحاً اقتصاديا ولا إصلاحاً سياسيا لا يقوم على رؤية دينية وأخلاقية، وبالذات في منطقة يلعب فيها الدين دوراً رئيساً في تشكيل ثقافات المجتمع. والخلاصة أن بعض المفكرين الإسلاميين وقعوا في فخ الضلال حينما فهموا أن مفهوم العلمانية هو فصل الدين عن الدولة أو فصل السياسة عن الدين، بمعنى أن غلاة الأديان فهموا العلمانية على غير مقاصدها، كما أن غلاة العلمانية فهموا الأديان على غير طبيعتها. ولذلك لاحظنا أن الكثير يسرف في اتهام الآخرين بالعلمانية، ويجب ألا نسرف في اتهام الناس بالعلمانية لأن كل الدساتير في المنطقة العربية والإسلامية إلاّ ما ندر تنص على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن قواعد الدستور يجب ألا تتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي الأقوم، أي أن الدين جزء أساسي ومرجعي لمجموعة الأنظمة التي يقوم عليها كيان هذه الدول.