الأسبوع الماضي، تظاهر مئات الآلاف في شوارع العاصمة البريطانية، احتجاجاً على خطط حكومة ديفيد كامرون التقشفية. توافد المتظاهرون إلى وسط لندن من مختلف أنحاء بريطانيا، تلبية لدعوة الاتحاد العام للنقابات المهنية، الذي هدّد بتنظيم مجموعة أخرى من المسيرات والإضرابات الشاملة في مختلف أنحاء البلاد ما لم تتراجع الحكومة عن خططها «غير الناجحة»، اذ تراجَع النمو وارتفع الدَّين العام، ما أضرَّ بالفقراء وأفاد الأغنياء. وفي الوقت نفسه، في الكويت تظاهر ما بين 100 إلى 150 ألف شخص، بحسب أرقام المعارضة، أو بضعة آلاف بحسب أرقام الحكومة ومؤيديها. في بريطانيا «التي لا تغيب عنها الشمس» عاد المتظاهرون في المساء إلى منازلهم من دون مواجهات، ومن دون أن يتعرّض لهم أحد بعد أن عبّروا عن مطالبهم وتحدثوا بها في الهواء الطلق من دون مضايقات أو اعتقالات أو مطاردات، وغطتها الصحف البريطانية في اليوم التالي بعيداً عن «البروباغندا» التي تؤثر في الأمن والاستقرار والاقتصاد القومي، وتزيد حال التشظي المجتمعي. وفي نهاية المطاف ستضطر حكومة كامرون إلى إعادة النظر في قراراتها، لتحقيق رغبة الجماهير ومطالب النقابات، ولو بالحد الأدنى. من المعلوم أن عمل الحكومة في أي بلاد يوجّه إلى خدمة الشعب، ولولا وجود الشعب لما وُجِدت الحكومة وانتخب الرؤساء أو قَبِل الناس بأمراء، كما أن الوزير لا يتم «توزيره» لكي يخدم نفسه أو عائلته، وإنما ليعمل على تسهيل العمل وخدمة الناس ورعاية حقوقهم. ما حدث في الكويت كان على العكس من الحال البريطانية. فعندما خرجت المسيرات في الكويت حصلت مواجهات واعتقالات، ما وصفته المعارضة ب«يوم أسود» في تاريخ البلاد، لكنه لن يثنيها عن الاستمرار في الاحتجاجات ومطالبها الشعبية، مشيرة إلى «معركة طويلة»، غير موجّهة للعائلة الحاكمة آل الصباح، وإنما بقصد توصيل مطالب الشعب الكويتي التي لا تقتصر على إلغاء مرسوم تعديل القانون الانتخابي فحسب، لكنها تشمل إصلاحات سياسية ضرورية. حاولتُ خلال الأيام الماضية تفهّم أسباب «الغضبة» الرسمية من جهة، والشعبية من الجهة الأخرى، عبر قراءة أسباب تطور الأمور في الكويت إلى هذا المستوى المتأزم من التحدي والمواجهة التي لم تعتد عليها دولة صغيرة وغنية، لها تجربة ديموقراطية برلمانية يشار إليها بين دول الخليج والمنطقة. أولاً: من الخطأ الاعتقاد بأن أمير الكويت قد أخطأ عندما عدّل القانون الانتخابي ليصبح بدلاً من أربعة أصوات صوتاً واحداً، فالانتخاب عبر الصوت الواحد هو الساري والمعمول به في أعتى الديموقراطيات في العالم، لكون المنتخب عبر الصوت الواحد هو الأكفأ وصاحب القبول والتأثير الشعبي والقاعدة الجماهيرية القوية، الذي لا يمكن التشكيك في قدراته، طالما تم انتخابه شعبياً ليصبح صوت المواطن. ثانياً: الكويت دولة غنية وشعبها لا يعاني فقراً أو قلة حقوق، لكنه يبحث عن مطالب مشروعة يكفلها دستور البلاد، وهو ما جعله يرفع شعار «كرامة وطن»، وهذا يشير إلى أن الحكومة الكويتية أخطأت في رد الفعل الأمني العنيف طالما كانت المسيرة «سلمية» ولم تشهد تجاوزات شعبية. كما أن الحكومة أخطأت ثانية، وإلا لماذا لم يخرج رئيسها ويناقش نقاط الخلاف مع المعارضة، ويبذل جهوداً توافقية، لإيجاد مخارج مناسبة تبعد البلاد عن التأزيم؟ أليس مصير من يتجاهل صوت الشعب ومطالبه، ولو كانت بسيطة، في البلدان الديموقراطية العزل، طالما كان ليس قادراً على خدمة الناس ومناقشة قضاياهم وتوفير مطالبهم وصون حقوقهم وقبل ذلك الاستماع إليهم؟ ثالثاً: يبدو أن خشية الحكومة الكويتية من إفرازات «الربيع العربي» حضرت بقوة في الذهنية الأمنية، في ظل وجود تقارير تتحدث عن أن «الإخوان المسلمين» ينتظرون فرصة الانقضاض على السلطة في حال تَزَايَد التصعيد وارتفعت حدة المواجهات، إضافة إلى ارتفاع أصوات المحبَطين من «البدون» الذين لم تحل الحكومة مشكلة تجنيسهم منذ عقود. إن المؤشرات خلال السنوات الأخيرة تؤكد أن مخاطر تحفُّ بمستقبل الكويت، وأن مواجهات ستحدث في ظل الالتهاب والتأزم المستمر بين بعض نواب مجلس الأمة والحكومات المتعاقبة، ما كان يستدعي إيجاد علاج وقائي، عبر جراحة استئصالية ناجحة تتجاوز الأدوية المسكّنة، التي ما تلبث أن تُفقد الجسم المناعة فتعود الجروح للالتهاب. الكويت دولة فيها ممارسة برلمانية ديموقراطية، وكان يجب ألا تخشى بهذا القدر من المعارضة، إذا كانت متيقنة أن القوانين «غير منتهكة»، وأن قراراتها بحسب الدستور، لأن الدول الديموقراطية المتعافية التي تنعم بمؤسسات مدنية وبرلمانات قوية تواجه بما لديها عندما تهب الأصوات لحماية حقوق المواطنين على حساب القضايا الوطنية، من دون نفاق ومواربة ونرجسية. أعتقد بأن ما حدث في الكويت، مهما علت الأصوات وطلبت «الفزعات»، أمر طبيعي، لا يستحق التأزيم والاحتقان والتشنج من كلا الطرفين، فذلك يحدث في أعتى الديموقراطيات في العالم. وكان يجب على الحكومة، باعتبارها الأقوى، عدم التصادم مع المتظاهرين طالما أن خروج الناس كان في مسيرات حضارية سلمية، تعبِّر عن عدم الرضا. والاحتجاج حول قرار ما يعدُّ ممارسة صحية ودليلَ عافيةٍ مجتمعية في دولة غنية بمواردها النفطية وممارستها الديموقراطية. نقطة أخيرة: حمى الله الكويت من أصحاب الفتن، ومن أصوات «شعبويين» يركبون الموجات الصاعدة والنازلة، لتحقيق مكاسب شخصية أنانية بعيدة عن قراءة الأحداث المستقبلية بقدر إجادة إثارة النعرات والطائفية. شكراً للمعارضة الكويتية التي ألجمت «متصيّدين» لإفساد اللُّحمة بينها وبين أمير بلادها، لتقدم لهؤلاء جرعة من الوعي الوطني الذي يصعب عليهم فهمه.