مِن مقاصد الشريعة في الأموال وضوحُها، ويحصل الوضوح بأن يكون مالُ الإنسان بحالٍ يمتنع معه أو يقلُّ وجود أسباب المنازعات والخصومات، ويتحقق هذا المقصد عبر تشريع التوثيق للعقود بكتابتها والإشهاد عليها وضبط ذلك كله ، وعبر تشريع الرهن في ذلك، مما يكون سببا في درءِ أسباب المنازعات بين الناس . ومن أجل هذا كان شأنُ التوثيق في الإسلام عظيماً، كما قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد السلام الهوَّاري (المتوفَّى سنة749ه) : (إنَّ علم التوثيق من أجلِّ العلوم قدراً وأعظمها خطراً، إذْ به تُضبط أمور الناس على القوانين الشرعية، وتُحفظ دماؤهم وأموالهم على الضوابط المرعيَّة) وقد دلَّ على أهمية التوثيق آيةُ المداينة التي مطلعها: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) وهي لِمَن تأمَّلَها آيةٌ عظيمة في الدلالة على التوثيق، ففيها جاء أَمْرُ اللهِ تعالى بتوثيق العقود بالكتابة في عقد المداينة، ويُلاحظ أنَّ ألفاظَ القرآن الكريم جارية في الأغلب على الاختصار، أما في هذه الآية فقد جرَتْ على البسط الشديد، ولذا كانت هذه الآيةُ أصلا في مسائل البيوع، ولما كان المديون وصاحبُ الحق هو المؤتمن على نفسه فيما يورده وفيما يُصدره، كان عليه أن يُمْلي بنفسه، فيُقِرُّ على نفسه بلسانه ليُعلم ما عليه، فتكون الكتابةُ بيِّنةً له إنْ ادُّعيَ عليه بزيادة، وإلى هذه النُّكتة أشار عليه الصلاة والسلام: (البيِّنة على المدَّعِي واليمين على من أنكر) وقد استخرج الحافظ ابن العربي في تفسيره منها أكثرَ من خمسين حُكْما، وهذا من مظاهر الإعجاز التشريعي في كتاب الله تعالى، فهذه الآية ليست خاصة بالقرض بل هي عامَّةٌ شاملة لجميع أنواع التجارة، ولذلك استعمل القرآن الكريم لفظ التَّداين وهو أعمُّ من لفظ القرض، فالقرض أن يُقرِضَ الإنسانُ غيرَه، أما التداين فهو تَفاعل مِن الدَّين، فيشمل القرضَ والبيعَ، فيقال: أَدَانَ لمن أقرض غيرَه، كما يقال أَدَانَ لمن باعَ سلعةً بثمن إلى أجل، فالتاجر القادر على تنمية مالِهِ بالتجارة قد يحتاج للمال، فيضطرُّ إلى التداين، فلذا كانت الآية عامَّةً لجميع أنواع التجارات، وعقود التجارات التي يحصل فيها التداين مبناها المسامحة بحيث قد يُعرِض الإنسان عن توثيقها، لأنها مكارمة بين الناس، فيستحْيي الدائن من طلب التوثيق -وهو حياءٌ مذموم منهيٌّ عنه- وهذا يعني أن التوثيق إذا كان مطلوبا ومندوباً إليه في عقود التداين، فإنه يُعتبر أهم وآكد في سائر أنواع البيوع والتصرُّفات المالية التي مبناها المكايَسة والمغالَبة كالبيع والإجارة والاستصناع والشركة وغيرها. وانظر أيها القارئ الكريم كيف أمَرَ اللهُ بالكتابة ليكون المكتوبُ صَكًّا يَستظهرُ به الدائنُ وصاحبُ الحق عند حلول الأجل، فيندفع بذلك ما قد يقع من غفلةٍ ونسيان، وفي هذا إشارةٌ جليَّة إلى أهمِّية كتابة الدَّين بجميع أوصافه المُبيِّنة له، لتُضبط صيغة التعاقد وشروطه، فتزول الجهالة فلا يلتبس الأمر على القاضي حين يتحاكمان إليه، ثم إنَّ في قوله تعالى: (وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) أمْرٌ مِن الله للمتداينين والعاقدين أن يختارا كاتبا ديِّناً فقيها بصيراً بأحكام العقود، فيأمن كلُّ واحد من المتعاقدَين مِن إبطال حقِّه، وفيه حضٌّ للكاتب ألا يمتنع عن الكتابة، بل يجب أنْ يكتب وأنْ يحتاط في أموال الناس، فيحترز من الألفاظ والعبارات التي قد تكون سببا للنزاع، ويتحقق هذا إذا كان الكاتب عارفا بضوابط العقود، وديِّنا في نفسه بحيث لا يضع عبارةً مُبهَمة ولا موهِمة، قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارفٌ بها، عدلٌ في نفسه، مأمونٌ) ولما كان المديون وصاحبُ الحق هو المؤتمن على نفسه فيما يورده وفيما يُصدره، كان عليه أن يُمْلي بنفسه، فيُقِرُّ على نفسه بلسانه ليُعلم ما عليه، فتكون الكتابةُ بيِّنةً له إنْ ادُّعيَ عليه بزيادة، وإلى هذه النُّكتة أشار عليه الصلاة والسلام: (البيِّنة على المدَّعِي واليمين على من أنكر) فما أحوجنا إلى أن نلتزم شرع الله في تصرُّفاتنا المالية، فإنه ملاك الخير، وبه ندرأ أسباب الخصومات والمنازعات، وهو أقرب إلى التقوى وأبعد من الإثم والفسق الذي يكون بمخالَفة ما أُمرنا به وفِعْل ما نُهينا عنه، فقد قال الله تعالى في آخر آية المداينة تحذيراً من المخالفة: (وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ) والفسق في لغة العرب الخروج عن الحدّ وفي الشّرع الخروج عن الحدود الشرعية، والتي منها وضوح العقود وتوثيقها .