حين يتناول الناس الحديث عن الديمقراطية، فإن أول ما يتبادر إلى أذهانهم المفهوم السياسي لها، أما المفهوم الأوسع والأشمل للديمقراطية فإنه يغيب عن الأذهان لا يكاد يذكره أحد. الديمقراطية أسلوب عام للحياة في مختلف نواحيها وصورها، فهو أسلوب ينتطم الحياة داخل البيت والمدرسة وفي بيئة العمل وفي النادي وفي السوق وفي كل مكان، لكن هذا المفهوم ما زال غائبا عن فهم الكثيرين، وما زال بالنسبة لهم يكاد يكون غريبا وطارئا على حياتهم، فهم لم يعرفوا من قبل سوى تفرد شيخ القبيلة بالحكم، واستبداد رب العائلة بالرأي، وقمع الطالب وإلجام الموظف، ومن كان هذا شأنه فإنه يصعب عليه أن يكيف نفسه مع الأسلوب الجديد الطارئ على حياته. لذلك فإن الناس ما زالت عقولهم الباطنية تتعامل بالرفض للديمقراطية حتى وإن أظهروا علنا قبولهم لها ورضاهم بأحكامها، وربما لهذا السبب نجد أن من لم يفز في الانتخابات لا يسلم بذلك ويظل يردد الاتهام بالتزييف والطعن في نتائج الانتخاب. ومن تطيح به الانتخابات خارج منصبه الذي ألفه والتحم به طويلا يرفض التنحي ويصر على البقاء في مكانه مهما أبدت نتائج الانتخاب حتمية المغادرة. في بلادنا العربية لا فرق في التشبث بالكرسي وعدم مغادرته بيسر، بين رئيس ناد أو جمعية أو زعيم حزب أو رئيس برلمان أو رئيس جمهورية، الجميع لا يريدون الرحيل مستندين على تكذيب ما قالته الديمقراطية. وما أظنه هو أن هناك من يعز عليهم أن يقال عنهم إنهم غير مرغوبين أو أن هناك من هو مرغوب أكثر منهم فقدمته الانتخابات عليهم، وأن ليس لهم سوى الإذعان وإفساح المكان للوافد الجديد. هناك من يرى في تركه منصبه بناء على رغبة الجماهير نوعا من الإهانة، فالمغادرة بالنسبة له حتى وإن ودع بباقات ورد، تعني أن وجوده مرفوض، وأن يكون وجوده مرفوضا ذاك يعني أنه أساء أو قصر وأن الناس حين أحبطت آمالهم فيه أرادوا التخلص منه ليجربوا غيره. هذا الشعور هو بطبيعة الحال شعور غير سار لا يتمنى أحد أن يحس به يوما، لذلك فإن ردة الفعل تجاهه تكون مقاومة المغادرة وإنكار صحة نتائج الانتخابات بإلقاء اللوم على المؤامرات والتزوير وخدمة المصالح الخاصة وغير ذلك من المبررات التي تتخذ ذريعة لعدم المغادرة. إني لا أجد سوى هذا الجانب النفسي، تفسيرا مقنعا لسلوك أولئك الذين يستميتون في البقاء في رئاسة مجلس إدارة ناد أو رئاسة جمعية صغيرة، إلى حد التهديد باللجوء إلى رفع قضية ضد من يطالبهم بالتنحي! لو أن الناس تكيفوا مع الديمقراطية تكيفا صحيحا لما وجدوا عيبا في التخلي عن مناصبهم ولتقبلوا رفض الناس لهم بصدر أكثر رحابة، وسلموا بأن الناس من حقهم أن يختاروا من يشاءون ويرفضوا من يشاءون، ولأمكنهم أن يقنعوا أنفسهم بأن قبول الناس لهم أو رفضهم ليس دائما هو المعيار الوحيد على صلاحهم أو عدمه.