تبدو مصر عشيّة الاحتفال بالذكرى الأولى لثورة 25 يناير وكأنّها أمام شرعيّتين: شرعيّة الانتخابات وشرعيّة ميدان التّحرير.. وهو انقسام خارج أيّ منطق سياسيّ، يمكن أن يستسيغه العقلاء، فضلاً عمّا استقرّت عليه كلّ النّظم السّياسيّة الدّيموقراطيّة. فلا "شرعيّة" إلاّ لنتائج الانتخابات.. خاصّة إذا كانت ديموقراطيّة وشفّافة وغير مزوّرة.. وفي مصر الآن انعقدت أوّل تجربة ديموقراطيّة، بعيدًا عن أيّ إكراهٍ أو تدخّل من قبل الجهاز الإداريّ للدّولة.. بل خضعت لرقابة صارمة على مدار أيّام التّصويت حيث نُظّمت تحت إشراف (11) ألف قاضٍ، وبمراقبة (23) ألف منظّمة أهليّة، و(800) مراقب عربيّ ودوليّ، ونحو (1600) صحفيّ وإعلاميّ من كلّ الجنسيّات.. وهي انتخابات غير مسبوقة في شفافيّتها ونزاهتها.. ما يُكسب نتائجها شرعيّة تعلو على شرعيّة "الشّارع" والميادين العاجزة عن صناعة "شرعيّة" موازية لتلك التي أفرزتها صناديق الاقتراع. أنا لستُ مناهضًا لرقابة الشّارع على أداء السّلطة.. وما يحدث في الميادين ربّما يريده البعض محاولة لمشاغبة نتائج الانتخابات، غير أنّه في تقديري ربّما يكون يتّجه صوب علاقة تكامليّة مع ما يبدو بأنّه على النّقيض منه. في مصر الآن "أغلبيّة" اختارت "التّغيير" عبر صناديق الاقتراع.. و"أقلّيّة" اختارت "الميادين" طريقًا للتّغيير.. وهما خياران يستحقّان أنْ يُحترما طالما بتْنا نحلم بمجتمع ديموقراطيّ متسامح يسع الجميع، بدون تسفيه أو تجريح أو اعتداء على الحقوق وحريّات الآخرين، وطالما ظلّت الخلافات داخل أُطُر التّجاذبات السّلميّة محتفظة بفحواها الإنسانيّ والأخلاقيّ.. وفي الحالة المصريّة الحاليّة فإنّه في تقديري، يظلّ الخياران: الانتخابات والميادين مطلوبين في آنٍ واحد، لاسيّما في المرحلة الانتقاليّة: فالتحوّل الدّيموقراطيّ بدأ مشوار الألف ميل بخطوة الانتخابات.. بالتّزامن مع احتفاظ الشّارع والميادين بوهج الثّورة وعافيتها وحيويّتها، لردع توحّش السّلطة وتغوّلها في المرحلة الانتقاليّة. المشكلة الحقيقيّة الآن.. هو أن يقتنع شباب التّحرير أن لا شرعيّة الآن إلاّ لما أسفرت عنه نتائج الانتخابات.. وأنّ الاستقطابات والتّطرّف ورفْع سقف المطالب لن يكون مثمرًا بالمرّة .. خاصّة وأنّ كلّ الاستحقاقات المترتّبة على النتائج بدْءًا من البرلمان والدّستور والحكومة ورئاسة الجمهوريّة وفق الخريطة السّياسيّة التي أفرزتها صناديق الاقتراع باتت تفرض نفسها بقوّة الشّرعيّة وغير قابلة للقسمة بين شرعيتيّ الانتخابات وميدان التّحرير.. وهي حالة جديدة لن يجدي معها إلاّ "التّوافق" وليس الصّدام.. لأنّ الأخير سيكون بين من له "الشّرعيّة" ويملك "التّفويض" من الشّعب وبين من لا شرعيّة له إلاّ المشاغبة وشهوة الخروج على الشّرعيّة.