يبهرنا الشعب المصري كعادته، ويفاجئ نخبته ويكشف عزلتها واستخفافها وجهلها المشين به، فقد شارك بحماسة وفرح حقيقي 52 في المئة من الناخبين، ومنحوا أصواتهم بوعي وذكاء للتيار الإسلامي الأقرب إلى واقعهم المأزوم ومشاكلهم اليومية، وحجبوا أصواتهم عن فلول الحزب الوطني والأحزاب التقليدية (الوفد والتجمع والناصري) التي شاركت في خديعة الحياة الحزبية قبل ثورة 25 يناير. ورغم بعض حوادث العنف والتجاوزات - التي لا تقارن بعصر مبارك - نجحت المرحلة الأولى من الانتخابات، لكن هذا النجاح لن يخرج مصر من أزمتها ولن يضمن نجاح الثورة في استكمال أهدافها، بل ربما منح المشهد المأزوم مزيداً من التوتر والقلق، ومستويات جديدة أكثر تركيباً وتعقيداً في الصراعات على الشرعية، والسلطة، وهوية مصر الثقافية وشكل الدولة والحكم، وهي صراعات قد تكون مرشحة للتصاعد وربما تؤدي إلى صدامات في ما تبقى من المرحلة الانتقالية وحتى تسليم الجيش السلطة لرئيس منتخب في حزيران (يونيو) المقبل. وفي ما يلي قراءة لمضاعفات نتائج الانتخابات على أزمة الثورة والسلطة في مصر: 1- أجريت الانتخابات في أعقاب موجة ثورية ثالثة – الأولى في كانون الثاني (يناير) والثانية في تموز (يوليو) – كشفت عن انهيار شرعية حكومة عصام شرف والمجلس العسكري، والمطالبة بتسليم المجلس العسكري السلطة لحكومة إنقاذ وطني. من هنا بدت الانتخابات وكأنها متعارضة مع الثورة، فالمجلس العسكري استفاد من التشرذم التنظيمي والسياسي للثوار ومن انتهازية النخبة، وكلف كمال الجنزوري بتشكيل حكومة على رغم رفض الثوار في ميدان التحرير. كما قرر تشكيل مجلس استشاري من شخصيات مدنية، لم يعلن عن صلاحياته، بل أصبح وجوده غير مفهوم في ظل برلمان منتخب يمكن أن يجتمع ويباشر مهماته الشهر المقبل. وألقى المجلس العسكري بكل ثقل الجيش في معركة تأمين الانتخابات وضمان نجاحها في مواعيدها المقررة سلفاً. ولا شك في أن الجيش نجح في تنظيم وتأمين المرحلة الأولى من الانتخابات، وهنا تكمن مفارقة أن العسكر الذين هتف ثوار الموجة الثالثة برحيلهم، هم الذين نظموا أول انتخابات نزيهة منذ 60 عاماً، وقد أعاد هذا الإنجاز للمجلس العسكري بعضاً من شرعيته، وقلص من قاعدة التأييد الاجتماعي الذي حظيت به الموجة الثورية الثالثة. لكن المفارقة الثانية أن نتائج الانتخابات التي نظمها المجلس العسكري أفرزت نواباً للشعب هم أصحاب الشرعية الشعبية الوحيدة عبر صناديق الانتخاب، ما يعني تجريد المجلس العسكري من شرعيته، فهو لم ينتخب أو يستفتي الشعب على وجوده، وإنما خوله رئيس مخلوع سلطاته من دون وجود نص في دستور 1971 بذلك. أي أنه إجراء غير شرعي، لكن الشعب منح المجلس شرعيته وهي شرعية ثورية، جسدها الثوار في ميدان التحرير وميادين مصر. 2- إذا كانت الشرعية الثورية هي التي مكنت المجلس العسكري من الحكم فإنها انقلبت عليه في الموجتين الثانية والثالثة من الثورة، بعد أن وقعت صدامات بين الثوار والمجلس العسكري، نتيجة بطء أداء المجلس وحفاظه على نظام مبارك ورجاله، علاوة على فشله في إدارة المرحلة الانتقالية. من هنا راهن المجلس العسكري على الشرعية الشعبية، وتحدث عن الغالبية الصامتة التي تقف إلى جانبه (تظاهرات العباسية) بينما تمسك شباب الثورة بالشرعية الثورية، لكن الانتخابات الآن نقلت صراع الشرعيات إلى منطقة جديدة، تتجاوز إدعاءات المجلس والثوار، فالشرعية أصبحت لصناديق الاقتراع والتي قال فيها الشعب كلمته بحرية ونزاهة. والمفارقة أن الشعب لم يمنح شباب الثورة - لأسباب كثيرة – مقاعد في البرلمان بحجم دورهم وتضحياتهم. من هنا خسر الثوار والمجلس العسكري أسانيد الشرعية لكل منهما. إلا أنهما لم يخسرا شرعية الدور والوجود. فالمجلس العسكري يحوز القوة الفعلية في أرض الواقع، ويحظى بصلاحيات واسعة بموجب الإعلان الدستوري تمكنه من تشكيل الحكومة وحل البرلمان. أما الثوار فإن ميدان التحرير وميادين أخرى مفتوحة أمامهم، وأثبتت الأحداث قدرتهم على الحشد والعودة بالثورة من جديد، في حيوية نادرة تؤكد أن حق التظاهر السلمي والاحتجاج سيظل أحد أهم آليات الرقابة على أداء البرلمان المنتخب والحكومة، من دون أن يحق للثوار الحديث باسم الشعب. ما أقصده أنه بالإمكان المزاوجة بين شرعية الانتخابات وشرعية ميادين الثورة، على أن تظل الأولوية لشرعية البرلمان إذا حدث تعارض بين الطرفين. 3- شكلت نتائج انتخابات المرحلة الأولى مفاجأة للجميع بمن فيهم «الإخوان» والسلفيون والمجلس العسكري، وبالطبع الأحزاب والقوى المدنية، فقد حصل «الإخوان» على نحو 45 في المئة، يليهم السلفيون ب 25 في المئة، ثم الكتلة المصرية ب 13 في المئة، وحصل حزب الوفد على نسبة 7 في المئة، ثم حزب الوسط الإسلامي على 4 في المئة. أهم ملامح المفاجأة أن التيار الإسلامي حصل على غالبية مريحة، ربما تتجاوز الثلثين!، والمدهش أن الإسلامويين سيحافظون على الأرجح على تلك النسب في المرحلتين الثانية والثالثة، ما يعني تحولاً حقيقياً في تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والأهم الثقافي، ففي أول انتخابات نزيهة منذ 60 عاماً يقرر الشعب انتخاب ثلاثة كيانات حزبية تمثل ثلاث قراءات مختلفة للإسلام السياسي، تتصارع على تجسيد شرعية الانتماء للإسلام أو المرجعية الإسلامية: الكيان الأول هو حزب «النور» السلفي، ويمثل قراءة سلفية جامدة، والثاني حزب «الحرية والعدالة» التابع ل «الإخوان» ويقدم قراءة وسطية ينقصها كثير من التجديد والقدرة على الإدارة السياسية، والثالث حزب الوسط والذي يقدم القراءة الأكثر قرباً للاعتدال والتجديد ضمن الخطاب الإسلاموي. ومن دون الدخول في تفاصيل برامج الكيانات الثلاث فإنها غير مستعدة للحكم، كما أن بينها اختلافات فقهية وفكرية وسياسية عميقة، قد تعرقل قيام جبهة أو ائتلاف بينها لتشكيل حكومة في المستقبل. 4- الصراع والصدام على شرعية الثورة، وشرعية الانتخابات، وشرعية الانتماء للإسلام أو تجسيد المرجعية الإسلامية يتجاور مع شرعية تمثيل الليبرالية المصرية، وأعتقد أنه لا توجد ملامح واضحة لمدرسة ليبرالية مصرية تستجيب لتحديات القرن الحالي والتطور في الفكر والتجارب الليبرالية حول العالم. وكان «وفد» 1919 قدم قراءته المصرية الخاصة لليبرالية إلا أن الأحداث تجاوزتها ولم ينجح «الوفد» الحالي في تطويرها، ومن ثم بدت ملامح أزمة في الفكر والتمثيل السياسي لليبرالية، وحصل تنازع على شرعية تمثيل الليبرالية بين الوفد وأحزاب عديدة أبرزها «المصريون الأحرار» الذي أسسه رجل الأعمال نجيب ساويرس، والشاهد أن دور الأخير وتصريحاته أضفت طابعاً طائفياً على الحزب، وعلى قوائم الكتلة المصرية التي شكلها الحزب مع أحزاب التجمع الديموقراطي الاجتماعي. أي أن البديل الليبرالي الذي حاز على المرتبة الثانية بعد التيار الإسلامي أخفق في أن يقدم خطاباً ليبرالياً مصرياً جامعاً يوحد عنصري الأمة كما كان يفعل «وفد» 1919. ولا شك في أن هناك أطرافاً إسلامية تتحمل مسؤولية الاستقطاب والشحن الطائفي في الانتخابات، والذي قد يتسع تأثيره في المناطق الريفية في المرحلتين الثانية والثالثة، وهنا تبرز إشكالية أن انتخابات ما بعد الثورة، والأكثر نزاهة تجري خصماً من ميراث الوحدة الوطنية وحقوق المواطنة، وما يثير المخاوف أن مناخ الاستقطاب والفرز الطائفي ربما يصبح أحد الآليات السلبية المرتبطة بمنجز الانتخابات النزيهة والديموقراطية، فقد حضر في الاستفتاء على الدستور، وها هو يعود بقوة في انتخابات البرلمان! وربما يعود في كتابة الدستور والاستفتاء عليه، وفي أعمال البرلمان، خصوصاً في حال عدم نجاح القوى المدنية في الحصول على ثلث مقاعد البرلمان أي الثلث المعطل، ما يعني هيمنة الإسلاميين على البرلمان على غرار ما كان يحدث من قبل الحزب الوطني. 5- يرتبط صراع الشرعيات في مصر بموازين القوى وبالأدوار والصلاحيات التي يحق لكل طرف ممارستها، فالتيار الإسلامي صاحب الغالبية والشرعية ليس من حقه بموجب الإعلان الدستوري تشكيل الوزارة، بل إن الجنزوري المكلف بتشكيل وزارة إنقاذ وطني لم يعلن نيته ضم بعض الوزراء المنتمين الى «الإخوان»، والأهم أن المجلس العسكري الذي كلف الجنزوري يمارس هذا الحق من دون شرعية أو تفويض شعبي، وكل ما يستند إليه هو الإعلان الدستوري الذي منحه هو لنفسه وخوله الصلاحيات الواسعة التي كانت لرئيس الجمهورية، والأغرب أن البرلمان المنتخب لا يجتمع إلا بدعوة من المجلس العسكري الذي يحق له التشريع والاعتراض على القوانين، ما يشير إلى أن أصحاب الغالبية والشرعية لن يمارسوا السلطة وسيتمتعون بصلاحيات أقل من الشرعية التي منحها الشعب إليهم، كما أن شباب الثورة الذين يجسدون الشرعية الثورية لن يتمثلوا بنسبة معقولة في برلمان الثورة، كما لم يتمثلوا في الحكومة، من هنا يبرز عديد من التناقضات والتي قد تنفجر في الأسابيع المقبلة، إما في شكل صدام بين أصحاب الغالبية البرلمانية من جهة، والمجلس العسكري والقوى المدنية من جهة ثانية حول تشكيل اللجنة التي ستكتب الدستور ومدنية الدولة وحقوق المواطنة والحريات العامة، ويبدو أن هذا هو الصدام الأقرب، أما الصدام الثاني المتوقع فقد ينشأ نتيجة الصراع حول الصلاحيات بين المجلس العسكري والبرلمان، وقد يقف شباب الثورة من حيث المبدأ مع أصحاب الغالبية البرلمانية على رغم اختلافهم سياسياً مع «الإخوان». ويبقى احتمال الصدام الثالث بتفجير موجة ثورية جديدة تجمع بين المطالب السياسية والاجتماعية وذلك كرد فعل لإهمال ملف العدالة الاجتماعية ومحاربة الغلاء والانفلات الأمني. لكن الصدام يظل في التحليل الأخير مجرد احتمال أو تهديد يمكن تجنبه في حالة قيام حوار جاد ومستقل عن سلطة المجلس العسكري والحكومة، تتولى إدارته شخصيات مستقلة ويشارك فيه كل أصحاب الشرعيات وأطراف العمل السياسي للتوصل إلى توافق وطني عام على استكمال أهداف الثورة وكتابة دستور وفق قاعدة القبول العام والحلول الوسط عوضاً عن فرض الغالبية المنتخبة صاحبة الشرعية لرؤيتها ومواقفها على الأقلية. وأعتقد أن نجاح هذا السيناريو رهن بخبرة «الإخوان» ونزعتهم العملية، واحترام المجلس العسكري لنتائج الانتخابات والتزامه بتسليم السلطة في نهاية حزيران (يونيو) المقبل. * كاتب مصري