الجولات الانتخابية التي حدثت في تونس ومصر ضمت معركتين في ميدان واحد وليس معركة واحدة. هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يدركها كل من قال: إن الإسلاميين انتصروا في هذه الانتخابات ومن قال: بل الليبرالية هي التي انتصرت على خيول إسلامية. وإن كنت أظن أن الفريق الآخر أدق تصورًا للواقع من الفريق الأول الذين أطنبوا في الحديث عن الفتح الإسلامي الجديد في هذه الانتخابات بل وصل بعضهم إلى تسمية ما حدث بالخلافة السادسة، معتبرًا عمر بن عبدالعزيز خامس الخلفاء الراشدين وهم الذين يأتون من بعده مباشرة أي من حيث الترتيب الزمني فقط. والصورة التي تظهر لي هي أن في الميدان معركتين انتصر كل فريق منهما في واحدة وخسر الأخرى. المعركة الأولى كانت على قلوب الناس ومشاعر الجماهير، وهذه المعركة فاز بها الإسلاميون دون منازع. فقد حصل الإسلاميون في مصر على ستين في المائة من الأصوات وحصلوا في تونس على خمس وخمسين في المائة تقريبًا، هذا مع اعتبار العريضة الشعبية تمثل توجهًا إسلاميًا، أما حين نستثني العريضة الشعبية ونصنفها في المستقلين وهو ما يُرحب به النهضويون كثيرًا فستكون النتيجة لصالح الاتجاه الاشتراكي والمستقلين الذين حصلوا على ستين في المائة. ففي تونس لا يُمكن القول إن الإسلاميين قد انتصروا إلا مع اعتبار العريضة الشعبية، أما دون العريضة فالاشتراكيون التونسيون هم من انتصر في المعركة الأولى والتي تستهدف قلوب الناس والتي جمعها مع المعركة الأخرى ميدانٌ واحد. أما المعركة الأخرى في ذات الميدان فهي معركة الفكر السياسي، وهذه المعركة هي التي خسر فيها الإسلاميون خسارة منكرة لا سيما في تونس حيث اضطروا إلى تقديم العلمانية على أنها هي الإسلام، وألغوا جميع الفوارق بينهم وبين من سواهم من العلمانيين، بل وصل بهم الأمر الى ترشيح نساء سافرات، ليس ذلك وحسب، بل والمباهاة بترشيح نساء من هذا النوع، ثم تكريس العلمانية بترشيح علماني يساري لرئاسة المجلس التشريعي المُنَاط به مسؤولية صياغة الدستور، فالمجلس التأسيسي الذي يشكل ممثلوا الأحزاب اليسارية والمستقلون غالبية أعضائه، يتمتع اليسار فيه بقوتين، قوة التمثيل العددي وقوة رئاسة المجلس. ولم يَكتفِ إسلاميوا تونس بهذا بل كان مرشحُهُم للرئاسة ناشط سياسي علماني أقرب ما يكون إلى الفكر اليساري أيضا. فمعركة الفكر السياسي في تونس لم تحسم لصالح الإسلاميين، والقول بأنها كذلك تطاول على الواقع وجناية عليه. أما في مصر فلا يزال الفكر السياسي العلماني هو المنتصر أيضا، فشعارات الإسلاميين المصريين التي ناضلوا من أجلها السنين الطوال لم تعُد مرفوعة اليوم كشأنها بالأمس، بل حتى السلفيون المصريون الذين لا يزالون الأكثر حفاظًا نلاحظ أن شعاراتهم قد خف وهجها ولم يعد لها ذلك البريق القديم. وإن كان تقمص الإسلاميين للفكر العلماني في مصر أخف بمراحل كبيرة من شأن نظرائهم في تونس فهذا فيما يبدوا لي عائد إلى الشعب المصري نفسه، فهو أشد استيعابًا وفهمًا لدقائق الإسلام وأشد حماسًا لتعاليمه من أخيه الشعب التونسي الذي عانى من التغييب الديني مدة غير يسيرة من الزمن. فالأحزاب الإسلامية في مصر لا تستطيع مجابهة المصريين بمثل ما جابهت النهضة به الشعب التونسي، ولو فعلوا ذلك لخسروا المعركة قبل بدايتها فيما يبدو لي. عُذر التدرج الذي يُقَدِّمُه الإسلاميون أو المعتذرون لهم بشكل غير رسمي مقبول لدي ولا أنازع فيه أبدًا، لكنَّ الذي أُنازع فيه، هو نِسبة المشروع الليبرالي للإسلام لدرجة جعلت الفارق بين بعض المتحدثين الإسلاميين عن برامجهم المستقبلية وبين العلمانيين والليبراليين يبدو منعدمًا، وهذا هو ما جعل الكتاب الليبراليون يعدون ما تم من انتصارات للإسلاميين نصرًا للمشروع الليبرالي ولكن بخيول إسلامية.