الحدث التونسي الذي ترددت أصداؤه في أنحاء العالم ينبغي أن تقرأ وقائعه جيدا من جانبنا، خصوصا أنه يبعث إلينا بعدة رسائل مهمة جديرة بالاستلام والاستيعاب. 1 أتحدث عن نتائج الانتخابات التي جرت هناك يوم الأحد قبل الماضي (23/10)، وفاز فيها حزب النهضة بتسعين مقعدا من أصل 217 مقعدا للجمعية التأسيسية. متقدما على مجموع ما حصلت عليه الأحزاب الليبرالية واليسارية الأربعة التي لم تحصل على أكثر من 73 مقعدا. بل إن حصول حزب النهضة على ما يعادل 41٪ من المقاعد فاجأ المسؤولين التونسيين أنفسهم، لأن رئيس الوزراء الحالي الباجي السبسي كان قد صرح بأن الحزب لن يحصل على أكثر من 20٪. هذه النتائج وضعت حزب النهضة في قلب أول تجربة من نوعها في التاريخ العربي المعاصر. ذلك أنها المرة الأولى التي تتمكن فيها حركة إسلامية من الوصول إلى السلطة من خلال انتخابات ديمقراطية، ويسمح لها بأن تواصل مهمتها والنهوض بمسؤولياتها. (فوز حركة حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني له وضعه الخاص الذي يعرفه الجميع وقد عوقب قطاع غزة بالحصار بسببه) فالإسلاميون وصلوا إلى السلطة في السودان عام 1989 في أعقاب انقلاب قاموا به بالتعاون مع بعض ضباط الجيش، وحين فازت جبهة الإنقاذ الجزائرية في الانتخابات التي أجريت عام 1991 فإن الجيش انقلب عليها ولم يسمح لحكومتها بأن تقوم. وفي إيران تولى الفقهاء السلطة في أعقاب ثورة 1979. وفي تركيا تولى حزب العدالة والتنمية السلطة بعد فوزه في انتخابات عام 2002، لكن الحزب لا يعتبر نفسه إسلاميا، وإن لم يختلف أحد من الباحثين على أن جذوره كذلك. هذه الخلفية تعزز القول إن حزب النهضة بمرجعيته الإسلامية المعلنة أصبح في قلب أول تجربة ديمقراطية من نوعها تجرى في العالم العربي. الأمر الذي يوفر فرصة اختبار مشروعه الإصلاحي المتفتح، الذي بلورته في بداية ثمانينيات القرن الماضي حركة «الاتجاه الإسلامي». وهي الحركة التي أسسها الشيخ راشد الغنوشى، في أعقاب عودته من دراسته للفقه والفلسفة في مصر وسوريا، وشروعه في طرح أفكاره عبر مجلة «المعرفة» التونسية. لم يكن فوز حركة النهضة بهذه النسبة العالية هو المفاجأة الوحيدة (للعلم فازت في الانتخابات 49 امرأة 42 منهن على لائحة حزب النهضة). ولكن الإقبال الشديد من الجماهير التونسية على التصويت بنسبة تجاوزت 80٪ كان مفاجأة أخرى. أما المفاجأة الثالثة فقد تمثلت في التقدم النسبي لتيارات الاعتدال العلماني واليساري ويرمز للأول حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بزعامة الدكتور المنصف المرزوقي الذي حصل على 30 مقعدا. كما مثل الثاني حزب التكتل من أجل العمل والحريات بزعامة الدكتور مصطفى بن جعفر، الذي حصل على واحد وعشرين مقعدا. المفاجأة الرابعة كانت في حصول حزب العريضة الشعبية على 19 مقعدا، ولكن لجنة الانتخابات استبعدته بعدما تبينت علاقته بحزب الرئيس بن علي المنحل (التجمع الدستوري)، أما المفاجأة الخامسة فقد تمثلت في تدني عدد المقاعد التي حصل عليها الحزب الديمقراطي التقدمي الذي يقوده أحمد نجيب الشابي، إذ فاز بسبعة عشر مقعدا. أما الحزب الديمقراطي الحداثي فلم يحصل إلا على خمسة مقاعد فقط. وحزب العمل الشيوعي حصل على 3 مقاعد. وهذه الأحزاب الأخيرة تمثل التطرف العلماني بجناحيه الليبرالي والماركسي. 2 صحيح أن حزب النهضة فاز بأكبر عدد من الأصوات والمقاعد، لكن الأصح والأدق أن الجماهير التونسية صوتت للاعتدال بشقيه الإسلامي والعلماني، وهذه نقطة بالغة الأهمية وعميقة الدلالة في ذات الوقت، ذلك أن تونس يحكمها منذ الاستقلال (عام 1956) نظام علماني متشدد ازداد غلوا واستبدادا منذ تولي الرئيس السابق زين العابدين بن علي السلطة قبل 23 عاما. إذ لم يقف عند حد محاربة مظاهر التدين وإغلاق جامعة الزيتونة، وإنما عمد النظام التونسي إلى ملاحقة الحركات الإسلامية واحتجاز بعض قادتها في السجون، الأمر الذي اضطر البعض الآخر النزوح إلى خارج البلاد والاستقرار في فرنسا وإنجلترا وسويسرا. وفي الوقت الذي حظر فيه النشاط الإسلامي، وفتح المجال واسعا لنشاط الحزب الشيوعي، فإن الإعلام التونسي عن طول الوقت عمل على تشويه الهوية الإسلامية، والربط بين التدين والتخلف والظلامية والانحطاط بكافة صوره. هذه الأجواء لم تتغير كثيرا بعد ثورة 14 يناير، صحيح أن النظام سقط وأن نسائم الحرية التي سادت سمحت لحركة النهضة بأن تكتسب شرعية وتنشط في الساحة كما سمحت لقادتها المنفيين بأن يعودوا إلى ديارهم، إلا أن النخبة العلمانية ظلت متحكمة في المجال العام وفي وسائل الإعلام بوجه أخص، وبسط اليساريون سيطرة مطلقة على هيئات السلطة الانتقالية مثل المجلس الأعلى لتحقيق أهداف الثورة والهيئة المستقلة لتنظيم الانتخابات وظلت الدعايات الانتخابية التي أدارتها أبواق التطرف العلماني تخوف الناس من التصويت لحركة النهضة، بدعوى أن فوزها يعني أن حريات الناس في خطر. وأن تطبيق الحدود قادم مع «النهضة». وفرض الحجاب في الطريق ومكتسبات المرأة مهددة بالزوال، كما أن الفنون سيقضي عليها، والبنوك ستغلق أبوابها، والسياحة ستتوقف..إلخ، ولم يكن خطاب التطرف العلماني وحده الذي تبنى هذه المقولات، ولكن الإعلام الفرانكوفوني أسهم في ترديدها والترويج لها طوال الوقت أيضا. في مواجهة حملة التخويف فإن حملة حركة النهضة بذلت جهدا كبيرا لطمأنة الناس وإزالة آثار ترويعهم. وكانت المفاجأة الصدمة عند البعض أن الجماهير لم تستجب للتعبئة المضادة والتحريض، وأن حركة النهضة فازت بأعلى نسبة من الأصوات، الأمر الذي يكاد يكرر ما حدث بمصر في شهر مارس الماضي، حين جرى الاستفتاء على تعديلات الدستور وانحاز الإعلام ومعه قطاع واسع من المثقفين والسياسيين إلى رفض التعديلات، لكن الرأي العام لم يستجب لحملة التحريض والتخويف، وأيدها أكثر من 70٪ من المصريين. 3 عديدة هي أوجه التشابه بين الحالتين التونسية والمصرية. فقد عاش كل من البلدين تحت نظام بوليسي اختلف في الدرجة فقط، حيث كان أكثر شراسة في تونس لكنه كان أشد مكرا في مصر، والبلدان خضعا لنظام علماني كان فجا ومتطرفا في تونس، لكنه كان خجولا ومتواريا في مصر. والبلدان حظرا العمل السياسي على التيار الإسلامي، لكنهما أباحا أنشطة الأحزاب الشيوعية. وكان ذلك صريحا ومعلنا في تونس، لكنه أيضا كان ملتويا وخجولا في مصر. كل من البلدين استخدم فزاعة الإسلاميين لتسويغ حظرهم وإقناع الدول الغربية بأنهم البديل الذي يهدد مصالحهم. ولكي ينفذ سياساته ويحشد الرأي العام وراءها، فإن كلا من البلدين استعان بعدد كبير من المثقفين العلمانيين والشيوعيين السابقين، ومكنهم من منابر الإعلام والثقافة حتى صاروا جزءا من النظام وأحد أهم ركائز استمراره. من أوجه التشابه أن الثورة السلمية نجحت في البلدين، وأن الجماهير هي التي حملتها وقادتها. الجيش في مصر انحاز إلى الثورة وشكل مجلسا عسكريا لإدارة البلاد، لكنه وقف محايدا في تونس، وتولى السلطة رئيس مجلس النواب طبقا للدستور. وفي كل من البلدين كان هناك حزب محتكر للسلطة يقوده الرئيس، وأحزاب هامشية حوله تستكمل «الديكور» الديمقراطي، وبعد الثورة حدثت اندفاعة قوية لتشكيل الأحزاب، التي بلغت 115 حزبا في تونس، واندفاعة مماثلة في مصر التي أعلن فيها عن تشكيل خمسين حزبا بعد ظهور 120 ائتلافا. ومن المفارقات في هذا السياق أن السلفيين في مصر خاضوا غمار المعركة الانتخابية وقرروا إنشاء حزبين يمثلانهما. في حين أن أقرانهم في تونس رفضوا المشاركة في الانتخابات ووزعوا منشورات دعت إلى مقاطعتها قبل 48 ساعة من إجرائها. وللعلم فإن التيار الإسلامي المنخرط في العمل السياسي ممثل وحيد هو حركة النهضة. أما في مصر فللتيار الإسلامي سبعة أحزاب. في تونس سلكوا بعد الثورة ذات النهج الذي اتبعوه بعد إعلان الاستقلال عام 1956. فقرروا أولا انتخاب جمعية تأسيسية تمثل القوى الحية في المجتمع، لتتولى تعيين الرئيس وتشكيل الحكومة وإصدار القوانين ووضع الدستور وذلك لكي تتولى سلطة مدنية إدارة البلد في الفترة الانتقالية لحين إصدار الدستور الجديد. لكننا في مصر ضيعنا وقتا طويلا في الجدل أيهما أولا الانتخابات أم الدستور، رغم أن الاستفتاء على التعديلات الدستورية أيد البدء بالانتخابات، وبسبب الضجة التي أحدثها ذلك الجدل تم تمديد الفترة الانتقالية وظل المجلس العسكري قابضا على السلطة وليس معروفا على وجه التحديد متى تجرى الانتخابات الرئاسية، ومن ثم متى ستسلم السلطة إلى المدنيين؟ 4 تجنبوا أي شيء من شأنه أن يشعل حربا مدنية بين العلمانيين والإسلاميين. كانت تلك هي النصيحة الثمينة التي وجهها إلى الليبراليين والوطنيين العرب الدكتور المنصف المرزوقي، المناضل المخضرم وزعيم حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وهو الحزب الذي يمثل الاعتدال العلماني، ويحتفظ بعلاقات إيجابية مع حزب النهضة، ويرشحه المعلقون السياسيون هو والدكتور مصطفى بن جعفر زعيم حزب التكتل من أجل العمل والحريات، لكي يشكل مع حزب النهضة جبهة قوية في المجلس التأسيسي والحكومة وقد سمعته أكثر من مرة وهو يدعو إلى إبعاد الأيديولوجيا عن التنافس الانتخابي والإبقاء على ذلك التنافس في حدود الصراع السياسي وليس العقائدي. هناك رسائل أخرى مهمة ودروس مستفادة يستخلصها المرء من التجربة الانتخابية التونسية يمكننا اختزالها في النصائح التالية: لا تفقدوا ثقتكم في المواطنين العاديين. فهم أكثر ذكاء ووعيا مما تشي بهم مظاهرهم البسيطة ورغم الضجيج والطنين الذي يملأ الفضاء من حولهم، فإنهم قادرون على التمييز بين الأصيل والدخيل، وبين الحقيقة والزيف. المعتدلون في كل فصيل علماني أو إسلامي أو يساري أقرب إلى بعضهم البعض من المتطرفين في كل فصيل. وسفينة الوطن لن تواصل الإبحار إلا إذا تواصل المعتدلون فيما بينهم وشكلوا جبهة واحدة. الوطن ملك لكل أبنائه وليس بوسع أي فصيل أن يقوده وحده، فضلا عن أنه لا يحق له ذلك أصلا. وللوصول إلى بر الأمان، فلا بديل عن ائتلاف المختلفين الذين يمثلون قوى المجتمع الأساسية. لأنه لا خلاف حول الأهداف الوطنية المرحلية، المتمثلة في الديمقراطية والاستقلال والعدالة الاجتماعية، فإن الاستغراق في الكلام عن الهويات والأهداف النهائية يفجر الخلاف ويبدد الجهد ويبعثر القوى. لا تهملوا شبكات التواصل الاجتماعي، فقد أثبتت جدواها في اصطفاف الجماهير واحتشادها خصوصا قطاعات الشباب الذي يعول عليهم في المستقبل. الإسلاميون المنشغلون بالعمل السياسي مطالبون بأربعة أشياء هي: 1 طمأنة الناس وإزالة مخاوفهم 2 الانشغال بخدمتهم وليس بوعظهم 3 الكف عن الحديث عن مصائر الخلق في الآخرة وتوزيعهم على الجنة والنار 4 احترام الحياة الخاصة للناس التي ينبغي ألا تمس طالما أنها تمارس في حدود القوانين المطبقة. جيد أن نتلقى الدروس. لكن الأجود أن نستوعبها ونتعلم منها.