رشيد الخيُّون *نقلا عن "الاتحاد" الإماراتية بأس في الخلاف السياسي والحزبي والشخصي، ولا بأس بتبادل الاتهامات، فهذه هي التعددية الحزبية. والأحياء من العراقيين يتذكرون عندما كان العراق ديمقراطياً (1921-1958)، وفق مقاييس ذلك الزمن ومكاييله، فالمرأة لم تكن عاملة في السياسة مخافة أساطين الفقه، واليوم هي نائبة ووزيرة، ونتمنى ألا يحجبها الفقه عن تولي القضاء. لكن البأسَ كلَّ البأس أن يأخذ الخلاف انفعالاًً طائفياً حاداً. مِن تجارب العهد الملكي، كان يجري الخلاف ويؤطر في هذا الإطار، ولما وصل إلى خطورته، وزجت في أتونه العشائر والمذاهب وقف علماء الدين وقفة مشرفة ضده. كان أبرزهم الإمام محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954). تحركت عشائر الفُرات الأوسط بدفع مِن السياسيين، لأجل الزعامة والتأبيد في رئاسة الوزراء، أتى وجهاء العشائر إلى الإمام طالبين فتوى الجهاد ضد الحكومة، ولأنه ليس مِن فئة الإسلام السياسي ولا محسوب على حزب، وليس له طمع بشراء جامعة حكومية ورتبة لواء لجهاده، أدرك أن ذلك سيقود إلى فتح باب الردى، مثلما هو مفتوح الآن، فعلى حدِ عِبارة بصير صنعاء عبد الله البردوني (ت 1999): "الفاتحو باب الرَّدى.. لا يملكون الآن قُفلا". فلما رُفع الهتاف بطلب فتوى الجهاد: "يمحمد حسين العَجل (السِّرعة).. فتوى الجهاد افتيها" (الصغير، أساطين المرجعية العليا)، أدرك كاشف الغطاء أن ذلك لا يتعدى الابتزاز السياسي، فلا مسؤولاً يهمه السنَّة ولا آخر يهمه الشيعة، فالطائفي بطبيعته يكون أنانياً، ومن لا ينفع الوطن لا ينفع الطائفة. وأجد محمد صالح بحر العلوم (ت 1992) قال وأجاد في حوادث (1934)، ناعتاً الطائفية آنذاك بالحية الرقطاء: "يأتي بها ذَنبٌ فيصبح باسمها.. رأساً تُقدس ذَنبه السُّفهاءُ" (الخاقاني، شعراء الغري). لكن بدلاً مِن إعطاء الفتوى سعى كاشف الغطاء إلى إخماد النعرات، حتى عُد ذلك من إصلاحاته، ف"حفظ بها الوضع وكاد أن ينقلب رأساً على عَقب. إخماده ثورة العشائر من الرُّميثة، وبني حجيم، وقبائل المجرة، وما يُحيط بسوق الشيوخ وعشائر الفُرات الأوسط" (محاورة الإمام مع السفيرين). بما كنا نتثقف على أنها ثورة فلاحية، وهي على ما يبدو ليست كذلك، إنما وقعت العشائر تحت تأثير السِّياسيين ببغداد، وما كان الفلاحون، بالغربية أو الجنوبية، إلا حطباً لنيران تلك الصراعات. ما يجري اليوم ليس بعيداً عن الأمس، ومع اختلاف الوسائل لكن المقاصد نفسها. خرجت مظاهرات بالمدن الجنوبية مطالبةً بإعدام طارق الهاشمي، مع أن القضية ما زالت تهمةً وبحدود الصراع السياسي، وأمر الاعتراف الذي بثته قناة "العِراقية" مازال تهمةً لا يجوز إعلان تفاصيلها حتى تُثبت، وكم يُذكر العِراقي ببيانات انقلابات الأيام الخوالي. بالمقابل أخذت الحناجر تصدح بصلاح الدِّين والأنبار، في مظاهرات منددة بالاتهام ومطالبة بإقالة المالكي. بمعنى تحرك المالكي الشِّيعي يجر وراءه جماهير الشِّيعة وتحرك الهاشمي السُّنَّي ضامناً جماهير السُّنَّة، مع أن لا المالكي قلبه على الشيعة ولا الهاشمي الذاب عن حقوق السنة، لو قُدر وانتزعت المناصب منهما. لا يخلو الأمر من التحريض لنقل المواجهة مِن بين شخصين، أو قائمتين، إلى ما بين شيعة وسنة، والسبب أن الطائفية هي الكنز النفيس، فلولاها لسقطت مائة حكومة وحكومة، لأن الأسباب متوافرة، فليس أخطر من القتل الجماعي! بين فترة وأخرى تحصد التفجيرات مئات الأرواح، ولا أخطر من قتل المتظاهرين وإرهابهم! وأخطر من الفساد المالي والإداري! ليست إدارة المالكي معنية في هذه القضية وحدها، وإن كانت السلطة التنفيذية لها مسؤوليتها، لكن لولا الفرز الطائفي لسقطت كل إدارات الدَّولة العِراقية، لأنها هشة، لا تمتلك عنصرا من عناصر البقاء لذاتها لولا الاستلاب الطَّائفي، بداية من رئاسة الوزراء إلى رئاسة البرلمان إلى رئاسة الجمهورية. الكل يدين الكل، وكأن ليس للمسؤولين (الأكفاء) عملاً سوى ابتزاز بعضهم بعضاً بملفات القتل والفساد. لم تكن تظاهرات الناصرية وتظاهرات الأنبار وصلاح الدين بريئة مِن التحريك الحزبي وتفعيل الطائفية، وجرت بقصد خلق حالة من التخويف بالآخر، وعلى الناس أن تنشغل بشيعيتها وسُنيتها وتترك حقيقة أوضاعها المعاشية والأمنية. لستِ سنوات والمالكي يعدُ بإصلاحات ومصالحات وبمحاربة الفساد، لكنه سمح لأكبر الفاسدين بالخروج من العراق بريئاً، وسمح لنفسه باستغلال السلطة القضائية في أكثر من موقف. وبلا دليل صرح الهاشمي أن الحكومة ومكتب رئاسة الوزراء وراء التفجير الأخير، وهو لا يقل تسرعاً وقلة حيلة من التشهير به. فما عُرض على تلفزيون "العراقية" من اعترافات لأحد أفراد حماية الهاشمي، الأسبوع الماضي، لا ينم عن ذكاء وحِكمة، وهنا لست بصدد التأكيد على براءة الهاشمي ولا على كيد المالكي، فهذا ما لا أملكه، وكل ما أقوله إن القتل ينحر السنة والشيعة معاً، فلا واسط ولا صلاح الدين بمأمن، ألم يحصد الإرهاب للهاشمي ثلاثة أشقاء: المهندس محمود الهاشمي (13 أبريل 2006)، وبعد أسبوعين اغتيلت شقيته ميسون الهاشمي (27 أبريل 2006). وبعد ستة أشهر(9 أكتوبر 2006) تم اغتيال شقيقه المستشار في رئاسة الجمهورية عامر الهاشمي. وتبنى اغتيال الأخير فيلق يُسمي نفسه "فيلق عمر"! فأمام هذه الخسارات، التي لا تقف عند أشقاء الهاشمي، إنما طالت مئات الآلاف وما زالت تطول، كم يجب الحذر من الانفعال الطائفي، وكم هي خيبة العراق في توزيع المناصب طائفياً، مثلما المالكي أخذها باسم الشيعة والهاشمي تولاها باسم السنة، ويتشاجران باسميهما. صحيح أن سكان العراق يتألفون من طوائف، وليس من الإنصاف حصر المراكز بيد طائفة دون أُخرى، لكن من هلاك البلاد أن توزع مراكز السلطة بلا قيود الخبرة والدراية، فيكون البقال والحداد وزيراً للصناعة أو الزراعة، والشرطي وزيراً للثقافة، وخريج المدرسة الدِّينية مديراً لبنك أو مؤسسة إنتاجية لأنه ممثلاً للطائفة. مع جليل الاحترام لهذه المهن لكن العصر عصر التخصصات. على أهل العراق أن يدركوا، من أجل بلادهم وثروتها التي تذهب نهباً رواتب ضخمة وصفقات خيالية، من أجل دمائهم المهدورة يومياً، خطورة زجهم في الخلافات السياسية بثيابها الطائفية. ألا يكونون حطباً لنيرانها! فلا مالكي شيعي ولا هاشمي سني! أختم: ألا يشير توقيت انفجار قضية الهاشمي، والعشرين انفجاراً، مع خروج الأميركيين إلى أن أصحابنا لم يبلغوا سِن الفِطام بعد!