سامي الماجد * الحياة اللندينة أن يوجد فقر فلا يعني ذلك بالضرورة عموم فساد، فسنة الله تعالى مضت في عباده أن يكون فيهم فقراء كما يكون فيهم أغنياء، والناس متفاوتون في عقولهم وطباعهم وقدراتهم، وقد قسم الله بينهم أرزاقهم كما قسم بينهم عقولهم، ولا أظن عاقلاً ينازع في أن قدراً من الفقر ليس سببه الظلم والتعدي والفساد والاستغلال والاحتكار، كما أن منه ما سببه ذلك قطعاً، ولا يمكن محاربة الفقر إلا بمحاربة تلك الأسباب، والخلط بين هاتين الدرجتين للفقر فيه تلبيس ومغالطة ومراوغة. فهناك من يتغابى ويتعامى - قصداً - عن الثاني ليعمم حالته الأولى، ويجعل الفقر قدراً مقدوراً، لا تهمة لأحد فيه. إن ثمة أسباباً بشرية وسّعت دائرة الفقر، وسحقتْ كثيرين إلى حضيضه، وعملت في جعل المال دُولة بين الأغنياء، واستنزفت المال العام، وابتزت الأموال بالاحتكار وبصور كثيرة من أكل أموال الناس بالباطل. لِم إذاً مكافحة الفساد المالي والإداري؟ أليس من تبعاته انتشار الفقر، واستفحال أسبابه، وتضاؤل الطبقة الوسطى؟ لِم يقال في أمر الفقر ما لا يقال في شأن ظاهرة الغلو والتطرف والعنف؟ ما الذي يجعل قولك عن الفقر: إنه سنة الحياة، وقَدَر محتوم، فلا بد من التعايش معه، لا يصح لغيرك أنه يقول مثله في شأن ظواهر العنف والغلو والتطرف: إنها هي الأخرى سنة من سنن الحياة؛ لأن العقول والأفهام تتفاوت، فلنتعايش معها، ولا يجوز أن نجعلها خطيئة مناهجٍ في التفكير خاطئة؟ فإن قلت: إن الله قسم بين الناس معايشهم، وجعل منهم فقراء وآخرين أغنياء، فلغيرك أن يقول: إن الله - سبحانه - قسم بينهم عقولهم، فمنهم الذكي، ومنهم الغبي، ومنهم الحكيم ومنهم الأحمق، فلماذا تُجهد نفسك في محاربة انحرافات العقول والفهوم؟ هناك من يحاول توظيف الدين لتدجين العقول، وتطبيع الناس على تقبل الفقر واستشرائه بينهم، وأن الفقر هو أيسر طريق يوصلهم للجنة، وأنه حالة أفضل لهم من الغنى وسعة الرزق، يريد من خلال ذلك أن يوصل لهم رسالة مبطَّنة أن محاولة الخروج من ربقة الفقر تعني السعي لأبواب الفسق، وأن الصبر على الفقر خير من الاجتهاد للتحرر منه، وهكذا تُفهم النصوص الشرعية على هذا النحو، أو يُراد للعامة أن يفهموها كذلك. والشرع بريء من هذا كله، ونصوصه إنما توجب على الفقير الصبر الذي يمنعه من التسخط، وليس الصبر الذي يُقعده عن العمل، فيصبح عالةً على الناس، والإسلام لا يحب لأهله الذلة والمسكنة والفاقة، والفقر مظنة لذلك كله، لكنه يعزيهم ويصبّرهم حين يكون الفقر هو قدرهم الذي لا مناص منه، كما يصبره على كل مصيبة يصابون بها، ويعدهم على الصبر عليها أجراً عظيماً، ولا يخرج الفقر أن يكون مصيبة من المصائب، ليست الفضيلة فيه هو بل في الصبر عليه، وحين يعد الله الصابرين الأجر العظيم على مصيبة من المصائب فالعقول السوية تفهم أنه سبحانه لا يدعوهم إلى التسبب لها أو تمنيها، فكذلك شأن الفقر. ومن هنا قال علي - رضي الله عنه - قولته الشهيرة: لو كان الفقر رجلاً لقتلته. لك أن تقول لفقير ضعفت حيلته، وضرب عليه الفقر بأطنابه: اصبرْ وارض بقضاء الله وقدره، لكن ليس لك أن تقول لمؤسسات المجتمع وأجهزة الدولة: الفقر في مجتمعنا قدَرٌ سابق، وسنة ماضية، وليس عليكم تبعة ولا مسؤولية أن تكافحوه وتعالجوا أسبابه. أليست ثمة أيدٍ تعمل في إفقار الناس بجشعها واستغلالها وفساد ضمائرها؟ فهل يقول قائل: إن السكوت عنها هو سكوت عن قضاء ماضٍ في الخلق لا حيلة في دفعه؟ * أكاديمي في الشريعة.