د. حسن بن فهد الهويمل - الجزيرة السعودية هذا عنوان مقال لطيف، يستهويني اقتناصه في مناسبات كثيرة متفاوتة، كتب قبل ثمانية عقود أو تزيد، بقلم أمير من أمراء البيان العربي، يضارع حامل اللقب: «شكيب أرسلان» في ثرائه اللغوي وفصاحته الأسلوبية، ذلكم هو «مصطفى صادق ..... الرافعي». وللمقال قصة طريفة، على الرغم من أن توارده على الخاطر استدعته تلك الظروف العصيبة، التي يمر بها العالمان: العربي، والإسلامي. و»الرافعي» - رحمه الله - ثالث ثلاثة نسل من بين أساليبهم أسلوبي، وهم (أحمد حسن الزيات) و(طه حسين) ومن قبل هؤلاء (مصطفى لطفي المنفلوطي). وهؤلاء هم أصحاب الأساليب المتأنقة. أما (العقاد) فقد أثر بي فكرياً ليس إلا، وحين فضَّلْت (العقاد) على (الرافعي)، ثارت ثائرة الكتَّاب ذوي النزعة الإسلامية، وهذا اللغط كشف لي عن خلل واضح في النَّسيج الفكري، يتمثل بالقراءة عن الأشياء، لا قراءتها، وتلك إشكالية السواد الأعظم من الكتاب، ذلك أنهم لو قرؤوا «الرافعي»و»العقاد» من خلال ما كتبا، لا من خلال ما كتب عنهما، لما أثارهم تفضيلي «للعقاد» على «الرافعي». أما قصة مقال (الرافعي) الطريفة، فتتمثل في مكيدة حبكها طلابه ومريدوه. ذلك أنه كان رجلاً متدينا، ومتصوفاً، ومصاباً بعاهة الصمم، فلا يسمع الأصوات، وتواصله مع الآخرين عن طريق الكتابة. وكان بعض طلابه ينقطعون عنه في بعض الليالي، لحضور حفلة رقص وغناء، ويجدون حرجاً من ذلك، حين يعاتبهم، وللخلوص من حرج المساءلة لفقوا له حكاية طريفة، مفادها: أن فتاة جميلة تشبه (رابعة العدوية) تحيي أول الليل في الرقص والغناء، وآخره في الصلاة والتهجد، وطلب المغفرة، وأنها عفيفة متدينة، وحببوا إليه حضور سهرتها. و(الرافعي) بقلبه الطفولي، وعاطفته الجياشة، وحبه الدفين، وغزله الرقيق، يُصدِّق مثل تلك المفتريات، ولم يتردد من الذهاب معهم في إحدى الليالي، ولما سهر، وأشبع ناظريه من مفاتن تلك الفتاة الراقصة، بهره جمالها، وأثاره تدينها، وأعجبته عفتها، فكتب مقالته: (في اللهب ولا تحترق). * * * هذا العنوان يلح بحضوره، كلما أجلت النظر في القنوات الفضائية، وشاهدت وسمعت الأحداث الجسام، والكوارث العظام، والنكبات الموجعة، والنكسات المؤلمة، التي تجتاح عالمنا العربي والإسلامي :- ثورات دامية، و(دكتاتوريات) متسلطة، وفقر مدقع، وبطالة مستحكمة، وكساد خانق، وتصحر مترمد، وجفاف معجف، وكوارث مدمرة، وأوبئة مستشرية، وتنازع طائفي، وتناحر عرقي، وتدخلات مريبة، تدمر كل شيءٍ أتت عليه. وبلاد الحرمين الشريفين وسط هذا اللهب آمنة مطمئنة، تتدفق عليها الخيرات من كل جانب، وتهوي إليها أفئدة ذوي الحاجات من كل صقع، ويتفجر من تحت أقدام أهلها معبود الماديين، وتنشق صحراؤها عن كفاءات بشرية، تتلقى رايات العز باليمين، وأهلها متلاحمون فيما بينهم، متصالحون مع حكومتهم، تمتلئ بهم ساحات المساجد، وتفيض بهم أروقة الجامعات، وتئط منهم أسواق التجارة، وتجبى إليهم ثمرات كل شيء، وسلطتها مدعومة من جبهتها الداخلية. وإسهاماتها الإنسانية و»اللوجستية» تمتد عبر كل الاتجاهات، جسور جوية للإغاثة، وقوافل أطعمة وأدوية، للبلاد المنكوبة أو الموبوءة، ومشورات ونصائح، واستقبال وتوديع، ومبادرات وقرارات، وأوامر ملكية، تبادر الخلال، وتسد الثغرات، وفي كل يوم تطلع فيه الشمس تنداح دوائر العطاء، من دعم للسلع أو فك للاختناق، أو تسوية للمشكلات، أو محاصرة للأزمات التي تجتاح العالم، وتحز الرقاب: كالبطالة والإسكان والغلاء والجوع والخوف. إنها في (اللهب ولا تحترق). وليس غريباً أن تتلاحق القرارات الإيجابية والأوامر السديدة والمبادرات الكريمة، ولكن الغريب أن هذه البلاد تعيش وسط لهب المشكلات العربية والإسلامية، ثم لا يمسها سوء، ولا تخترقها فتنة، ولا يطالها مكر، وتلك من النعم التي يمن الله بها على من يشاء من عباده. والأهم من كل تلك الغرائبيات، أن يعي المواطن هذه الحياة الاستثنائية، وأن يعرف أنها تفضّلٌ من الله، وأن الله وضع بين يدي العامة ترهيباً وترغيباً:- {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}. فهل نحن وسط هذا اللهب دون أن نحترق، نتعامل مع هذه النعم بما يقرها؟ أم أننا نقترف بالتقصير ما يساعد على فرارها، إن على المواطن السعودي، وهو ينعم بالأمن والرخاء والاستقرار، ويستقبل كل يوم مبادرة كريمة، أن يعرف الفضل لذويه، وأن يسعى جهده لشكر المنعم المتفضل، وأن يجتهد ما وسعه الاجتهاد لقيد أوابد النعم بالشكر لله أولاً، والشكر قول وعمل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}. والدعاء ثانياً لمن أجرى الله هذه النعم على يديه، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله، وأن يوازن بين الاستغلال المفرط لهذه الخيرات والتفاعل معها، والأداء السليم من خلالها، وليجتنب التبذير:- {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}. والوضع العربي والعالمي المتقلب يتطلب من عقلاء الأمة حمل العامة على وعي المرحلة، والتعامل معها بحذر شديد، وإذ عرف المشركون خالقهم عند ركوب الفلك، لوقوعه في أتون الخطر، فإن على المسلمين، وهم الأدرى بخالقهم، أن يلوذوا به، وهم في وضع أشبه ما يكون بركوب البحر الهائج المائج، وكيف لا يخاف العاقل والعالم العربي في أتون اللهب: - دماء تتدفق. - وقلاع تهدم. - وأمن يتهاوى. - وكساد يستشري. - وخوف يشيع. - وتسلط همجي يتحكم. وقنوات فضائية فضولية، ترصد الأحداث، وتنقلها بكل بشاعتها ووحشيتها. فهل تغني الآيات والنذر، بحيث نفر إلى الله امتثالاً لنصائح الرسل: (فَفِرُّوا إلى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) .