د. عبد الرزاق بن حمود الزهراني - الجزيرة السعودية كان الناس في القرى الشمالية من بلاد زهران في فترة ما قبل الطفرة الأولى، إذا انتهى موسم الزراعة أطلقوا أبقارهم ومواشيهم التي لا يحتاجون لها في وادي (تربة) لكثرة المياه والمراعي فيه طوال العام، فقد كان كثير الأشجار، كثير الأحراج والنباتات، وكانت أشجاره ونباتاته متشابكة وكانت المياه فيه لا تنقطع طوال العام، أما اليوم فقد طالته يد التصحر، وماتت معظم أشجاره، وغارت مياهه، وكان الناس يعودون لأخذ مواشيهم عند الحاجة لها، كان علي بن جمعان وحسين بن أحمد صديقين، يحملان روح النكتة والدعابة والمرح، وصادف أن لهما أبقاراً في وادي تربة فتواعدا للذهاب للبحث عنها، كان الأول يجيد استخدام البندقية في إصابة الأهداف، ويحمل بندقيته في يده، ويتمنطق بحزام مليء بالرصاص، وكان الثاني يقرض الشعر الشعبي، ويحفظ الكثير منه، سارا على أرجلهما منحدرين إلى وادي تربة، وقارب النهار على نهايته ولم يجدا بغيتهما، وليس لهما قدرة للعودة إلى قريتيهما قبل أن يحل الظلام، وتذكرا أن الناس كانوا ولا يزالون يقدرون بعض الشخصيات أكثر من غيرهم، ومن تلك الشخصيات عالم الدين، والشاعر، والطبيب، ومن تجاربهما وجدا أنه يكثر انتحال تلك الشخصيات حتى يصل الإنسان إلى مبتغاه، وكان الإيواء والطعام فيما مضى من أهم مبتغيات الناس، فقررا أن يركبا هذا المركب الذي وافق مزاجهما المرح، وحبهما للدعابة والنكتة، وكانا قد اقتربا من مراحٍ للبادية فيه عدد كبير من بيوت الشعر، فقصدا أكبرها.. كان فيه امرأة عجوز.. رحبت بهما، وبدأت في إعداد القهوة لهما، وسألتهما، من أنتم؟ فقال حسين: نحن من الحجاز، وكان الحجاز يطلق على أعالي جبال السروات لأنها تمثل الحاجز بين سهول تهامة وهضبة نجد، وأردف حسين: صاحبي هذا «مطوع» وأنا (شاعر)، فكررت الترحيب بهما. لمح صاحب البندقية هدفاً من المرو الأبيض منصوباً في الجبل المقابل، فسأل العجوز عنه، فقالت: لقد كان هنا ليلة أمس جمع من الرماة من قبائل مختلفة، نصبوه قبيل المغرب وحاولوا إصابته فاستعصى عليهم، فهل تظن أنك أيها (القروي) ببندقيتك هذه قادر على إصابته؟!! لم يرد عليها، ولكنه استدار بجسمه من على الشّداد الذي كان يتكئ عليه، وصوب بندقيته نحو الهدف، وأطلق رصاصة أصابته وتناثر المرو. مطوع وبواردي؟!! قالت العجوز: فلم يرد عليها.. وفي هذه الأثناء وصل زوجها وسأل عن صوت الرصاص، فأخبرته بأن الضيف قد أزال الهدف الذي استعصى عليهم في اليوم السابق، فقال: (بيض الله وجهه!!) وأخبرته بأن الضيفين أحدهما مطوع وهو صاحب البندقية، وأن الآخر شاعر، فحياهما ورحب بهما، وقرر أن يقيم لهما وليمة، يدعو لها جميع الجيران، وكأنه أراد أن يختبر ادعاءهما، فوجه سؤالاً للمطوع علي بن جمعان صاحبالبندقية والمسبت، قائلاً: ما أول ما فرض الله عليك؟ لم يكن المطوع يعلم إجابة لهذا السؤال فهو أمي لا يقرأ ولا يكتب..!!، ولكن رفيقه الشاعر لديه دراية بالإجابة، فقال: هذا سؤال سهل أنا أجيبك عنه، إن أول ما فرض الله علينا الإيمان به، والكفر بالطاغوت، قال أحسنت، ثم طرح سؤالاً آخر، فأجاب عنه الشاعر مرة أخرى، وعندها أخبرهما أنه خارج من بيت الشعر ليجهز لهما ذبيحة للعشاء، فاستأذناه للذهاب للبحث عن أبقارهما فيما بقي من وقت، وقالا بأنهما سيعودان بعد المغرب، فأكد عليهما وجوب العودة لتناول طعام العشاء.. خرجا من عنده وقال حسين: هذا الرجل مطوع ولا بد أنه شاعر..!! ولو عدنا قبل المغرب فسيطلبون منك أن تؤم المصلين، وأنت لا تحسن ذلك، ثم أن التدخين منقصة عند هذا النوع من الرجال، لذلك سوف ننحدر إلى منطقة الغدران ونتوضأ ونصلي المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، وندخن ما نشاء ثم نخفي الدخان في مكان ما لنأخذه عند رحيلنا غداً. نفذا ذلك وعادا بعد المغرب إلى منزل (المعزّب) كما يسمونه، تجمع سكان المراح في ذلك البيت، الرجال في جهة والنساء في جهة أخرى، وحان وقت العشاء، فطلبوا من المطوع أن يؤمهم، فأخبرهم بأنهم صلوا المغرب والعشاء جمعاً وقصراً لأنهم مسافرون. وبعد تناول طعام العشاء تقدم صاحب البيت وقال للشاعر: أريد أن أتحاور معك، فقال: لا مانع لدي، ولكن هل تريدنا أن نتحاور على ألحان الحضر، أم ألحان البادية؟ فقال: بل على ألحان البادية، فقال الشاعر: إذن ابدأ.. فبدأ بقصيدة، حاول صاحبنا الرد عليها وغنى وردد ورفع صوته وخفضه وتلعثم ولم يستطع متعللاً بعدم معرفته للحن البدوي، فقال صاحب البيت: دعنا نجرب اللحن الحضري، فقدم له قصيدة من محفوظاته، حاول صاحب المنزل الرد، ولكنه لم يستطع وقدم الحجة نفسها بأن اللحن غريب عليه. فاقترح أحد الحضور أن يسمعوهم مما قالوا، وكان حسين بن أحمد حافظاً للشعر، وخاصة القصائد الطويلة لكبار الشعراء، فنسب بعضها لنفسه وقدمها للحضور..!! فقال أحدهم: لو لم تختلف الألحان، لتفوق هذا الحضري على شاعرنا..!! وبعد مضي بعض الوقت انفض السامر، وعاد سكان المراح إلى منازلهم، وأوى الضيفان إلى الفراش الذي أعده صاحب المنزل، فقال حسين: ماذا ستفعل يا علي عندما تصلي بنا صلاة الفجر؟؟!! فقال: ستصلي بي أنت بعد أن نغادر قبل الفجر، ونأخذ الدخان ونواصل الرحلة، أما طعام الإفطار فسيكون إن شاء الله من صيد بندقيتي. أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام