الرؤية الحقيقية للكاتب الواقعي هي ألا تعميك الأفكار والأحلام الوردية عن قراءة الواقع قراءة صحيحة، فليس من الخطأ أن تحلم ولكن الخطأ أن تذوب في الحُلم وتنصهر فيه لماذا نقرأ المقال الأخير؟ سؤال طرحه صديقي الكاتب المُبدع الأستاذ "فاضل العماني "في مقال الثلاثاء الماضي على صحيفتنا الموقرة "الوطن"، الذي أشار فيه إلى واقع الكتابة في الصحافة العربية; حيث قسم كُتاب الرأي والأعمدة إلى نموذجين: كاتب توافقي، وكاتب تصادمي أطلق عليه مصطلح (كاتب المقال الأخير )، وسأحاول في هذا المقال المساهمة في هذا الطرح الثقافي، وذلك بوضع قراءة تحليلية جديدة مبنية على المنهج الواقعي، وهي بلا شك قراءة خاضعة للأخذ والرد وسأصنف الكُتاب بناء على ذلك إلى قسمين: أولاً: الكاتب الواقعي: عبارته المفضلة هي "السياسة فن الممكن "، ولذلك هو يستند دائماً إلى الواقع بكل جزئياته وتفاصيله، ويحاول استنطاقه بطريقة تفاعلية تُمكنه من القبول بكل ما هو ممكن التحقيق، والقبول بالمردود، والتفاؤل بزيادة ذلك المردود كُلما تقدم الزمن، الواقعي يتمتع بالمرونة العالية فهو بذلك يقبل المساومة والرضا بأنصاف الحلول، ولديه القدرة الفائقة على عمل توليفة خاصة بطريقة احترافية تجعله يُركز بشكل كبير على الآليات العملية المتيسرة التي يتم بها التغيير، والوصول إلى الهدف المنشود، هذا النوع اُطلق عليه ( الكاتب التوافقي). ثانياً: الكاتب المثالي: يعيش أحلام اليقظة، وينشد كثيراً إلى الأفكار المثالية ليُسقطها على الواقع إسقاطاً، فهو بذلك يستنطق الأفكار ولا يستنطق الواقع، حتى إذا رأى الواقع بطريقة تخالف أحلامه تجده يُصدم صدمة كبيرة، و يتعامل مع الواقع المرير على أنه كابوس يجب التخلص منه بأقصى سرعة، وكأننا نتحدث عن طبيب لا يتقن في طبابته سوى العمليات الجراحية! لذلك تراه ناقماً، متشائماً، صدامياً، يتسم بالشطح، والشخصنة فتجده عميقاً في فكره لكنه في المقابل يميل في الحكم على الأحداث من خلال الشخص سواء كان الشخص حقيقياً أو معنوياً (جماعة- فرقة – طائفة - حزب – مذهب)، إنه يحترف صناعة الموت مُتغنيا بعبارة "موتوا قبل أن تموتوا "، نعم إنه مصداق للمثل الحجازي "ياطُخه.. يا أكسر مُخه". هذا الصنف دائما ما يريد استنساخ التجارب العالمية، إنه بذلك يتجنى على قاعدة (التحميل بما لا يُطاق)؟ فالمثالية مثلاً في تجارب العالم المتقدم لا يُعقل استنساخها في العالم الثالث أو الرابع.. الكاتب المثالي لديه رؤية يزعُم من خلالها معرفة البدايات والنهايات ويقوم بعدها برسم المسار، و لكن بين بداياتها ونهاياتها يغيب وكأن الأرض انشقت وابتلعته ليكون بالنتيجة مصداقاً حقيقياً ل" صاحب المقال الأخير" ، وهو ما اُطلق عليه (الكاتب التصادمي). إن الرؤية الحقيقية للكاتب الواقعي هي: ألا تعميك الأفكار والأحلام الوردية عن قراءة الواقع قراءة صحيحة، فليس من الخطأ أن تحلم ولكن الخطأ أن تذوب في الحُلم وتنصهر فيه . يبقى السؤال المهم: لماذا يُوصف المثقف الواقعي في مجتمعاتنا العربية بأنه عديم الشفافية مع كونه مثقفاً واقعياً؟ الجواب يتركز في عبارة واحدة: (الكاتب الواقعي بين النظرية والتطبيق). الواقعي في واقعه العملي أساء إلى منهجه فتجده أحياناً يُشرعن لنفسه المراوغة والتبدل والتلون لمصلحته الخاصة مما يجعلك وأنت تقرأ حروف كلماته تُصاب سريعاً بالدوار وربما الغثيان لتكون النتيجة الطبيعية هي غياب الشفافية، لكن هذا لا يعني أن نصل إلى قاعدة عامة مفادها: أن الكاتب الواقعي غير شفاف والكاتب الصدامي شفاف. يبدو أن مجتمعاتنا تأثرت من هؤلاء الكُتاب التصادميين تحت دعاوى الشفافية ،الأمر الذي ساعد في ظهور مجتمع الصدمات وارتداداته العكسية من بروز بعض التقليعات الصدامية بين الفينة والأخرى، ليصفق لهم الجمهور على هذه الجرأة والشفافية، ومن مظاهر مجتمع الصدمات ما نراه طافياً على السطح من حالة التوتر التي يعيشها "التويتريون" والفيسبوكيون "في شبكات التواصل وعشقهم للتصنيفات. إن الشفافية لدى مجتمع الصدمات تُختزل في عقلية الأبيض أو الأسود، ليست لديهم شفافية في المنطقة الرمادية، لأنها منطقة تكره التصنيفات من جهة ومن جهة أخرى غير مستعدة لطرح قوالب جاهزة وصيغ سهلة. إنها شفافية تُريد من القارئ أن يصل هو إلى النتيجة، وفي الختام ألا يحق لي أن أتساءل بعد كُل هذا العرض وبطريقة برجماتية هل نحن بحاجة إلى المثقف التصادمي؟ هل نريد من الجميع أن يكون توافقياً؟ الجواب: البرجماتية جوهرها فن الممكن فهي قد تستفيد من كل ما حولها للوصول إلى أهدافها السامية حتى ولو كان مثقفاً صدامياً.