حسان بن إبراهيم السيف - الاقتصادية السعودية القرآن أعظم كتاب أنزله الله على خير الرسل، وقد جاء القرآن ليرعى حقوق الإنسان ويحميها ويحفظها فجعله الله - جل وعلا - رحمة للعالمين، وشرّف هذا الشهر بإنزال القرآن فيه ليكون رمضان هو شهر القرآن، ويكون عيد الفطر احتفاءً سنويا بهذا الشهر الكريم؛ ولأن رمضان هو شهر القرآن، والقرآن جاء رحمة للإنسان وكرامة له، فإن رمضان يستحق أن يكون شهر حقوق الإنسان، فلئن كان رمضان هو شهر الجود والإحسان، فإن رد الحقوق الواجبة إلى أهلها هو أمر أولى وأحرى بالعناية من التفضل بالصدقة والبر المستحب في رمضان، وقد لفت نظري عندما تأملت خاتمة آيات الصيام في سورة البقرة أن الله - عز وجل - أعقبها بقوله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)، وكان علماء السلف يقولون: إذا حدثت عن الله حديثا فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده، ولا شك أن الصوم عن أكل أموال الناس بالباطل آكد وأوجب من الصوم عن الأكل الحلال، ومن العجب أن تجد بعض أهل الخير يصل برهم وإحسانهم إلى الفقراء والمساكين بلا حساب، ولكنك تجده غليظا في بيعه وشرائه، عسيرا في معاملاته وسلوكه، حتى أشبه من قال الله عنهم (إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا)، ولا شك أن هذا انفصام جلي بين العبادات والسلوك والمعاملات، والمؤمن وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه سمح إذا باع سمح إذا اشترى سمح إذا قضى سمح إذا اقتضى، ولئن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فإن جوده - صلى الله عليه وسلم - رتبة عليا لم يبلغها إلا بعد أن كان أصدق الناس عهدا وأوفاهم وعدا وأحسنهم قضاءً لديونه وأسمحهم في اقتضائه لها، فهذه المنزلة الشريفة لا ينبغي لمن يهضم حقوق الناس أن يتطلع إليها ولا أن يتباهي ببلوغه إياها إلا بعد أن يفي بما ثبت في ذمته من الحقوق الواجبة للناس، وقبل ذلك كله أن يرد المظالم لأهلها إن كان ثمة مظالم ويرد الحقوق لأصحابها، ومن ثم يكون الإنسان مهيأًً للترقي في معارج الجود ومدارج الإحسان. وحين يكون الإنسان مهيأ لذلك فإن أعظم منازل الجود والإحسان التي اختصت بالثناء والاصطفاء هي منزلة العفو والصفح، والإحسان من المظلوم إلى الظالم فليس بعد هذا الإحسان إحسان؛ ولذلك كان جزاء هؤلاء مخفيا عند الله لعظمته وجزالته (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، وقال الله - عز وجل - (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)، وقد شهد رمضان أعظم عفو وصفح في تاريخ البشرية جمعاء حين دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكة فاتحا لها، وسادة قريش الذين قاتلوه وأخرجوه منها شاخصين صفوفاً ينتظرون ما يصنع بهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم ؟" قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه: (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) اذهبوا فأنتم الطلقاء". ورد مفاتيح الكعبة لعثمان بن طلحة وقال له: "هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر ووفاء"، وفي رواية أنه قال: "خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم".