يقول الدكتور غازي التوبة في ختام مقاله عن الديمقراطية والمواطنة في الثورات العربية الذي نشر في الجزيرة نت في 5 يوليو 2011م إن (الديمقراطية والمواطنة) ليستا قيمتين كونيتين بل هما قيمتان منبثقتان من الحضارة الغربية، وهما مرتبطتان بظروف أوروبا الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية إلخ....، ومع ذلك فيجب أن نستفيد من العام فيهما وأن نترك الخاص، من خلال الوعي بأننا أمة عريقة موحدة الثقافة واللغة والتاريخ والمشاعر والذوق والوجدان إلخ...، متجذرة في المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج. إنتهى كلام الدكتور أقول: إن دعوى أن الديقراطية والوطنية ليستا قيمتين كونيتين بل هما قيمتان منبثقتان من الحضارة الغربية هي دعوى خطيرة وغير مقبولة، والحقيقة أن (الديمقراطية والمواطنة) قيمتان كونيتان حياديتان تصلحان للشرق والغرب وللمسلمين ولغير المسلمين، وإن كان المقام يحتمل بعض التفصيل. وقد احتاط الدكتور توبة لاحتمال نقض مقولته فقال (يجب أن نستفيد من العام فيهما وأن نترك الخاص)، وهذا الاستدراك مهم جداُ لان العام الذي ذكره وأوجب أن نستفيد منه هو الاصل، وما الخاص الذي حذر منه إلا تفصيلات محلية ليست من أصل الديمقراطية والمواطنة بل هي النسخة الغربية للتطبيق ولا يمنع أن يكون هناك نسخ أخرى بحسب مرجعيات الاحزاب المنتخَبة، حيث أن الديمقراطية الحيادية قد تؤدي إلى حكومة رأسمالية أو يسارية أو ماركسية أو إسلامية بحسب مرجعية الاحزاب التي تفوز بالانتخاب، ولكن على هذه الحكومات أن تلتزم بالديمقراطية في شكل الحكم ثم تمارس التشريع وسن القوانين بحسب مرجعياتها، ومثال الحكومة الديمقراطية ذات المرجعية الاسلامية حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا، والمثال الاوضح حكومة حزب اربكان عليه رحمة الله التي كانت واضحة النهج الاسلامي غير أن قصور التوجه الديمقراطي في تركيا أيام أربكان مكّن العسكر من إقصائه بتكتيكات ظاهرها القانون وباطنها التسلط . ولكن ما الذي دفع الدكتور التوبة إلى قول ما قال؟ إنه يخشى من أن الديمقراطية في بلادنا ستفتح الباب للبشر أن يشرعوا في البرلمان، وهو يريد أن تكون الشريعة الاسلامية هي مصدر التشريع والجواب أن الاسلام لا يفرض على الناس قوانينه بل هو يدعوهم لها ويحببهم فيها، وصناديق الاقتراع تحدد مدى نجاحه في مهمته، وفي دولة مثل مصر كتبت في دستورها دون إجبار وبموافقة الشعب: المادة 2: الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. والدكتور التوبة يريدنا أن نستفيد من العام في المواطنة الذي هو الاصل والنهج الحيادي الكوني الذي يستوعب كل الناس ويحذرنا من الخاص -وحُق له- الذي يمكن أن يقف عائقاً أمام الوحدة العربية، وأن يلتزم الناس إلى الابد في بقعة جغرافية ثابتة وثقافة لاتتزحزح غير مراعين للتطورات... وتكون المشكلة أكبر لو أن هذه البقعة الجغرافية حددها لهم (سايكس بيكو) في لحظة ضعف منهم. نعم للمواطنين في هذه الحالة -بعد أن ينالوا حريتهم- أن يراجعوا حدودهم وتحالفاتهم فيتوحدوا ويتحدوا ويتحالفوا ويتعاهدوا بما فيه مصلحتهم، ولكن هذا لا يأتي تحت الاحتلال الخارجي أو الداخلي ولا يأتي وليد الاعتساف والارتجال بل يأتي من خلال قناعة وطنية واسعة تتبلور وتنمو وتقوى حتى تصبح حقيقة وواقعاً، فليس بعيداً أن يلتئم شمل بلاد الشام في المستقبل وتعود فلسطين وسوريا والاردن ولبنان بلداً واحداً باتحاد فدرالي أو بوحدة إندماجية وليس بالاجبار بل بالرضى من جميع الاطراف، بل لا يمنع ان يتوحد العالم العربي كله... كل هذا لاتمنعه المواطنة، كما لم تمنع المواطنة في اوربا من تشكيل الاتحاد الاوروبي ومن إعادة التآم المانياالشرقيةبالمانياالغربية، ولم تمنع المواطنة في كندا من إتحاد القسم الفرنسي مع القسم البريطاني رغم حروب سبقت بينهما ورغم اختلاف اللغة والثقافة ورغم وجود شريحة كبيرة غير مقتنعة بالاتحاد وتطالب باستفتاء شعبي على الانفصال بين حين وآخر، وفي آخر استفتاء جرى منذ عدة سنوات كانت نسبة الذين صوتوا للانفصال 48 بالمائة وبقيت كندا متحدة. إذن الديمقراطية والمواطنة قيمتان كونيتان حياديتان وقد استفاد منهما الخلفاء الراشدون، فبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إختار الشعب المسلم حكامه بنفسه لا بولاية مزعومة ولا بوراثة مفروضة، بل بعدة أشكال شورية واقعية تنسجم مع روح العصر وأدواته ووسائل اتصاله. وعاش المسلمون في المدينةالمنورة بمفهوم المواطنة، فكان فيها مسلمون وكافرون وأهل كتاب ومنافقون، وكانوا جميعاً مواطنون، ولم تكن هناك جزية على أهل الكتاب ولم يكن هناك اعتداء على المنافقين، وكان هناك وثيقة تضبط علاقة المواطنة أهم عباراتها المتكررة -لكم ما لنا وعليكم ما علينا- ويتساوي فيها الجميع بالحقوق والواجبات وأمام القانون. وحتى لا نذهب بعيداُ فان الشعوب العربية الثائرة اليوم تطالب بالديمقراطية والمواطنة في حدودها المعروفة، ويُترك للاحزاب المنتخبة إختيار مرجعياتها وسياساتها ويُترك للتطور الطبيعي أن يحدد علاقات الوطن وتحالفاته واتحاداته التي فيها مصلحته باختيار الشعب دون إجبار أو إعتساف.