تعددت صيغ المشاركة السياسة الإسلامية في الحكم للدولة الحديثة ،فإذا ما استثنينا السعودية والباكستان كدولتين وحيدتين قامتا على أساس إسلامي ينص على أن الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع وفق رؤية سياسية وفلسفة دينية واضحة المعالم لاسيما في التجربة السعودية الأكثر نضجا وأقل توترا وأكثر وضوحا وقرباً من المعاصرة.إلا أن هذا لا ينفي وجود صيغ كثيرة من المشاركة في الحكم من قبل أحزاب وأنظمة تباينت في فهمها وتعبيراتها وصياغاتها للإسلام على أرض الواقع وهو ما يؤكد أن التجربة ليست واحدة وأن صيغة الحكم ليست ثابتة وإن كانت تعود إلى مرجعية أيديولوجية واحدة، فهناك التجربة الإيرانية الشيعية الثورية، وهناك التجربة الماليزية الاقتصادية الرائدة وبينهما عشرات التجارب منها انقلابات عسكرية كما في السودان إلى مشاركات بأحزاب سياسية في الحكم كما في الكويت والأردن والمغرب وغيرها. وهناك التجربة الإسلامية التركية التي انطلقت على يد المخضرم الإسلامي نجم الدين أربكان الذي أسس أول حزب (حزب النظام الوطني) في 26 يناير 1971 الذي اتخذ رمزاً له قبضة يد منطلقة في الهواء وإصبع الشهادة موجهاً نحو الأمام. لكن هذا الحزب لم يصمد طويلا حيث تم حله بعد عام ونصف، سعى أربكان بعدها إلى تأسيس حزب جديد باسم حزب السلامة في 11/10/1972. وعلى إثر انتخابات 14/10/1973 شكَّل حزب السلامة مع حزب الشعب ائتلافاً وزاريًّا أحرز فيه أربكان منصب نائب رئيس الوزراء كما نال الحزب سبع وزارات هي وزارات الدولة والداخلية والعدل والتجارة والجمارك والزراعة والتموين والصناعة، إلا أنها لم تصمد أيضا هذه المرة إلا تسعة أشهر وفي عام1983 تأسس "حزب الرفاه" على يد عرّاب الإسلاميين الأتراك نجم الدين أربكان، ففي 1996 تشكلت وزارة ائتلافية على رأسها أربكان، إلا أن تجربة حزب العدالة والتنمية الذي أسسه رجب طيب إردوغان ومجموعة من رفاقه كانت قفزة في تجربة الأحزاب الإسلامية التركية حيث إنها اعتمدت على التخلي عن الخطاب الديني الذي التزمته الأحزاب السابقة بقيادة أربكان، وقامت على استخدام خطاب يتفق مع الواقع التركي والعالمي أيضا. هذه اللغة الجديدة لم ترق للأب الروحي للحركة الإسلامية التركية أربكان فكان الانقسام بين الطرفين و لاسيما عندما أعلن حزب العدالة والتنمية إستراتيجيته الداخلية في خمسة بنود شهيرة هي: 1- الديموقراطية والعلمانية وحكم القانون هي المبادئ الأساسية للجمهورية، فالحزب يؤمن بأن الازدهار والرفاه يقومان على تطبيق المبادئ المذكورة سابقا تطبيقا كاملا، وأن الانفتاح والشفافية هما مبدآن حيويان للحكومة, فالقطاع العام يموله المواطنون, ولهم الحق في معرفة أين وكيف يتم إنفاق أموالهم, وضمن هذا السياق أجرى الحزب تغييرات في الدستور والنظام القضائي لتعزيز الديموقراطية وتقوية الشفافية في فترة وجيزة جدا. 2- كل مواطن في تركيا يستحق كامل حرية الرأي والمعتقد والفكر, ويجب أن يكون قادرا على التعبير عنها بحرية. 3- يجب أن يكون للمواطنين الحق في تشكيل اتحادات ليعيشوا ثقافاتهم الخاصة كما يشاؤون، ولن يكون هناك تمييز على أساس الجنس والأصل الإثني والدين واللغة. 4- لن يكون هناك حزب سياسي يقوم على الدين و/أو القومية، فهما قيمتان جامعتان للمجتمع, الدين هو قيمة يشترك فيها الناس فهو فوق جميع الاهتمامات السياسية، والأحزاب السياسية التي تعمل على استثماره تقود الناس والمجتمع إلى الانقسام. وباعتبار أن الحزب يعرف نفسه بأنه ديموقراطي محافظ فإنه يعمل على احترام وتعزيز الثقافة وقيم المجتمع التراثية والاجتماعية, في الوقت نفسه الذي يعمل فيه على تحديث وتحسين مستوى الحياة في المجتمع، ويعتقد أن هذه القيم لا تتعارض بعضها مع بعض. 5- العمل على رفع تركيا إلى مستوى الدول المتقدمة, ولتحقيق هذا الهدف يجب أن تجرى إصلاحات بنيوية "رئيسية" في القطاع العام والاقتصاد, وهكذا يشكل تطبيق اقتصاد السوق الحر والخصخصة وزيادة فاعلية القطاع العام أهدافا رئيسة للحزب. ومن خلال هذه البنود دخل الحزب في تجربة جديدة وقضى سبعة أعوام صامدا في وجه الدكتاتورية العسكرية التي حاولت أكثر من مرة إزاحته والتخلص منه، إلا أن البراغماتية والمرونة التي يبديها الحزب على أرض الواقع جعلته الأكثر حظاً في الاستمرارية والتأثير ليس في تركيا فحسب بل على مستوى العالم من خلال استعادة دور تركيا في المنطقة، ووهج التجربة الحديثة المتزاوجة بين نقيضين في عالمنا العربي العلمانية والإسلامية لا يزال بحاجة إلى الكثير من التأمل.