لعل الأسوأ من أسباب ضعف الممانعة في بعد الثلث الأول من تاريخ الإسلام : أن المجتمع المسلم قد انشغل عن مقاومة هذه الظواهر بالفتن الأعظم والتي طالت الدماء والتي يَعُدُّها المؤرخون سبباً في نشوء كثير من الأفكار الغريبة عن منهج الصحابة كفتنة القول بالقدر والنصب والتكفير والتي نشأت كردات فعل من بعض من لم يتمثل منهج الصحابة الكرام على ما شجر بينهم من نزاع وما حصل بعد الخلافة الراشدة من ملك عضوض . وعدم السرعة في الاستجابة من المجتمع آنذاك لمحق المنكر في مهده , مهما بررنا له كان هو الغرسة الأولى للانحراف بالأمة الإسلامية عن حقيقة دينها , فقد تطورت بدعة القدر والإرجاء إلى مذاهب أصبحت هي السائدة بين المسلمين كالجهمية والمعتزلة والكلابية والأشعرية والماتريدية , وتطورت بدعة التشيع ليخرج منها مذاهب شتى لا حصر لها وكذلك ما كان من أمر التصوف الذي نتج عنه القول بالحلول والاتحاد ووحدة الأديان . ولا شك أن لهذا الضعف في الممانعة في تلك العصور المتقدمة أسبابه المختلفة التي يمكن للمؤرخين دراستها لكن الذي يجب أن نستفيده منها كمرحلة تاريخية هو خطر الركون إلى ظاهر المجتمع الجيد أو إلى الدولة القائمة بشرع الله تعالى لمنع تسرب الخلل في الهيئة المجتمعية بل يجب أن نركز على واجب الأمة في التنبه إلى مسؤوليتها في نفي الخلل عنها وهو ما يسمى بالممانعة المجتمعية . أما عصرنا الحديث فقد كان بُعدُ المجتمعات المسلمة فيه عن تحمل مسؤوليتها في مقاومة تغيير هيئته الاجتماعية أظهر من أن يُستدل عليه , يدل على ذلك نظرةٌ دقيقة في التاريخ الحديث للمجتمعات الإسلامية لتجد أن شيوع القِيَمِ المستوردة فيها لم يستغرق من الزمن ما يمكن أن يتناسب مع عظمة الإسلام الذي تدين به تلك الشعوب . وليس أمامنا إلا أن نقبل كل الأسباب التي يُقدمها المؤرخون لهذا التدهور السريع و لكن الذي لا ينبغي الغفلة عنه هو أن الممانعة المجتمعية يزداد بؤسهاُ في أكثر الدول الإسلامية استجابة لهذه التغييرات . من هذه الإلماحة التاريخية يمكن أن نُحَمِّل الممانعة المجتمعية مسؤولية الحفاظ على هوية الأمة المسلمة وهو ما ينبغي أن يتعلمه المسلمون , فالحفاظ على القيم ليس مسؤلية الدول وحدها وليس مسؤلية العلماء وحدهم لكنه مسؤولية المجتمع بأسره بجميع أفراده وليس العلماء ورجال الدولة إلا أعضاء في بناء المجتمع . وسوف أتحدث عن كيفية دعم الممانعة المجتمعية والموقع الصحيح فيها للدولة والعلماء بعد أن أجيب عن سؤال مفترض , وهو هل نادى الإسلام بمثل هذه الممانعة المجتمعية ؟ قطعاً , المصطلح جديد ولا أعلم أول من أبرزه , كما أنني أظن أن الهدف من إبرازه كان نقد ممانعة المجتمع ضد القيم الوافدة , وهي النبرةُ التي لا نزال نستمع إليها من كثير من الكتاب ومن بعض المحسوبين على طلب العلم الشرعي أيضا , مع تباينٍ كبيرٍ بين مرادهم من الممانعة ومرادِنا منها , لكن ما نقصده بالممانعة وهو ما لخصته في التعريف المقترح لها أجد أن آيات الكتاب العظيم وكثير من التشريعات الإسلامية تصب في صالح الدعوة إليه , أي الدعوة إلى أن يكون المجتمع المسلم منفرداً ببناء قيمه التي تتلخص في آدابه وأخلاقه ورؤاه وعباداته وعاداته وأعرافه. وأن تكون تلك القِيم مستمدة من دينه الذي لا بد أن يكون مصدراً وحاكماً , وكذلك بيئته وتاريخه ومقدرات أرضه ولغته.