يبدو أن الاعتياد يورث البلادة، وبين الحين والآخر تأتيني صور أو أفلام من اليوتيوب أتمنى أن لم أشاهدها، فهي تلوث الذاكرة وتحرمني من أنس خليل ومعنى الحياة، وتجعلني أغرق في صمت اللامعنى. فعلاً غرقت في بحر سؤال من اللامعنى والعبث؛ حين تأملت أمساخاً بشرية تفتك بالناس ثم تعربد فوق جثثهم، الراقدة بدون حس وحركة، تشكو للرحمن من ظلم الأهل، ويرفع أحد الأوغاد يده بعلامة النصر (V) فوق أجساد ممزقة، تسبح في بركة من الدم، ثم التصوير بمتعة وشتمهم وهم أموات، والسخرية من جمجمة متفجرة من طلقة قد اندلق المخ الأبيض منها مختلطاً بالدم الأحمر، في صورة سريالية تدعو للقيء. ويصيح وغد آخر مشيراً إلى ضحية أخرى بضحكة مجلجلة، كيف لم يُسلم نفسه لقوات الأمن، والرجل قد ارتسمت على وجهه علامات الرعب الأعظم، وهو يستقبل الموت بعيون جاحظة، ذكرتني بقصة الألف ضحية، التي كشفت في قبو كنيسة من أيام محاكم التفتيش، عُثر عليها صدفةً في ممر سري تحت الدير! ثم ضابط مجرم أشقر بكسكيت أسود يُذكّر بأركان قائد ميليشيات الصرب التشنيك وصديقه راتوك ميلاديتش التي أمسكت به يد العدالة، بعد فرار خمس عشرة عاماً. ضابط يقفز برشاقة بين الجثث مثل نمر أرقط أو فهد بري في السافانا، وهو يحمل أداة الموت بندقية الكلاشنكوف، ويحاول وضع الذخيرة الحية من الرصاص، يخاطبه شقي معه أن لجنة التحقيق قادمة، ويجب أن تتأكد أن هؤلاء يحملون سلاحاً وأنهم أرهابيون نالوا جزاءهم قتلاً. الضابط يصوره من حوله، وهم بجريمتهم فرحون، يتمتعون بلذة عجيبة مثل نمر جائع أمسك بفريسة طرية، والصورة تنقل جثث خمس فروا إلى سطح مسجد الكرك في درعا، مع طعام يزودون به المحاصرين في درعا، عسى أن يصمدوا أمام ماكينة القتل الجهنمية. تأملت وقلت لماذا يحدث ما يحدث؟ ليس القتل بل التمتع بالقتل! وعلى نحو مقزز لبشر ذاقوا طعم الحياة العائلية ومعنى الألم والحب والحنين والشقاء، لماذا يفعلون بأخوانهم من البشر كل هذه الفظاعات دون مبرر، فالقتل مرة واحدة يكفي؟! لماذا يفعلون ما يفعلون لأناس ليس بينهم حقد مسبق وثأر مزمن؟ ما تفسير كل هذه القسوة؟ لقد وصلت الصورة إلى أرجاء المعمورة، ويحللها خبراء علم النفس في تكساس! لماذا هذا الفتك على يد فرق الموت؟ لماذا استلاب الحياة تلك التي وهبها الرحمن للعباد، ولا أحد له الحق في مساسها؟ ثم لماذا تشويه الصور والعربدة فوق الجثث والنيل منهم والسخرية، وهم يعلمون علم اليقين أن أهل القبور صامتون صمت الأبدية فلا جواب ولو لإهانة؟! "أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون إلهكم إله واحد.." هل الحقد إلى هذا القدر من السُميّة؟ هل هو التصوير بأمانة لمن كلفهم بهذه المهمة التي لا يحملها إلا كلاب جهنم! هل هو تصوير بدقة لهذا الذي دفع لهم الأجر بسخاء، وهو يسجل الرقم الأعظم في الانحطاط الإنساني والعودة إلى البربرية؟ أم هي رسالة لأطراف أخرى تتردد في النيل من المواطن إلى هذا القدر، فيتشارك الكل في الدم والمضي في رحلة العنف الأعظم متشاركين معا في الجريمة؟ هل هي رسالة لكل من يتردد من صفوف فرعون أنهم ماضون في لعبة الموت والدم إلى آخر المشوار؟ بنفس الوقت رسالة لكل من يفكر بالاعتراض، وقول لا في أي اتجاه؛ أنه مهمش، ومهشم، ومصيره تقطيع لحمه أيما ممزق، وتفجير جمجمته، ذلك أن التفكير والتعبير ناسف للقحف جزاؤه العبودية أو الموت. إنها لحظات بئيسة في تاريخ الإنسان، ونكسة إلى حالة الغرائز البدائية من إراقة دم القرابين، ومتعة القتل بامتياز، لتمكين أناس أن يركبوا رقاب قوم آخرين، لا بد من إذلالهم واسترقاقهم، ودفعهم إلى قن العبودية حتى حين.. تأملت وقلت: لماذا يحدث ما يحدث، وهل ثمة من تفسير؟