هذه خاطرة حول ( طريقة الاستدلال ) في ( قضية قيادة المرأة للسيارة ) ، وليست حديثا عن ( قيادة المرأة للسيارة ) ؛ لأني – بصراحة – أكره الكلام في قضية أدرك تماما أن لو صدر قرار بالسماح بها يلوجد مئات يفتون بالإباحة ؛ بعضهم عن قناعة دينية ويكتمون رأيهم اليوم طلبا لمصلحة الإجتماع و بعدا ال انتباه لهم ، وبعضهم بحثا عن مصلحة ، و وتبقى ممانعة من قلة يهمسون بمعارضتهم دون جهر بها ، ثم لا يلبث أولئك الممانعون أن يلتحقوا بالركب ، ثم لا يلبث الأمر برمته أن يكون ذكرى من ذكريات الماضي يتندر به من عاصره ، ويُدْهش كيف تغيرت الأمور؟ ، ويتعجب من لم يعاصرها من الأجيال اللاحقة ويستنكر أنه وجد حقيقة من يرى حرمتها . ............................. خاطرتي معرفية خالصة تبين عن هشاشة في بناء الفتوى ؛ فأقوى الأدلة التي تطرح ل( تحريم القيادة ) هي سد الذريعة للفساد ؛ دعونا نبحث عن ( الفساد المتحقق ) وليس ( الفساد المتوهم ) لأن الفتوى إنما تبنى على ( الأمور المتحققة لا المتوهمة أكثر ما يورد من الفساد المحتج به للتحريم أمران : االأمر الأول ------------------ تسهيل طريق الفساد للمرأة برضاها ؛ فتكون السيارة عامل فساد كبير لها تذهب بها إلى ما تريد من دون رقابة أسرية ؛ قلت : هذا بلا شك معاملة دونية للمرأة ، وتغليب جانب الشك بها وبأخلاقها ، وبأن الأصل تقييدها ومنعها من التصرف إلا برقابة مشددة ، ثم إذا وافقنا على المعاملة الدونية للمرأة ، وأن الأصل الشك بها وبأخلاقها فاقول : هو متحقق الوقوع لمن أرادته من النساء دون قيادتها للسيارة ؛ متحقق بالجوال ، والانترنت ، ووجود سيارات الأجرة ، ووجود سواقين في البيت ، وكل هذه وسائل أسلم وأخفى من السيارة ؛ لأن السيارة معلومة لكل أحد ، وفيها رقم يمكن ملاحظته وتسجيله ، و عليه فيجب على من حرم قيادتها للسيارة دفعا لهذه ( المفسدة المتوهة ) أي يطرد الحكم ويحرم عليها استعمال ( الجوال ، والانترنت ، وركوب سيارات الأجرة ، بل والخروج من البيت وحدها ؛ لأنه مظنة للتصرف الشائن !!! ، والقاعدة الأصولية تقول : الشريعة لا تفرق بين المتشابهات ، ولا تجمع بين المختلفات ؛ فعلام فرقوا بين المتشابهات فأباحوا بعضها وقصروا التحريم على بعض آخر والعلة متحققة في الجميع ؟ الأمر الثاني : -------------- فسدة ( تحرش ضعاف النفوس من الشباب بمن تقود السيارة )، و قد أصابوا في هذه ، فلعمر الله إن هذه مفسدة حقيقية موجودة وليست متوهمة ؛ إذ هي متحققة ، و متفق على وجودها في ظل واقعنا المحلي حسنا سيقول المؤيدون للفتوى : أرأيتم أن ثمة مفسدة حقيقية وليست متوهمة فلماذا تجيزون قيادتها ؟ الجواب : صحيح ، ولا شك ، ولا ريب ، ولا يختلف في هذا اثنان أن هذه المفسدة متحققة الوقوع ، لكن اسمحوا لي أن أسأل سؤالا مهما وهو : هل هذه المفسدة ممكنة الدفع أي ممكن إزالتها أو لا ؟ دعونا نستعمل طريقة ( السبر والتقسيم ) في الجواب ؛ فنقول : إن كان الجواب : ( لا غير ممكن دفع المفسدة وإزالتها ) ؛ فلا شك ، ولا ريب ، ولا يختلف اثنان أن القيادة من الناحية الشرعية لا تجوز ، وهنا يجب ويتعين تفعيل قاعدة ( سد الذريعة ) بلا خلاف ، فتكون كتحريم بيع السلاح وقت الفتنة ؛ لأن بيع السلاح في حال الأمن جائز ؛ لكن وقت الفتنة لا يجوز سدا لذريعة استعماله في السطو ، وسفك الدم الحرام ، و هي مفسدة ( متحققة ) ولا يمكن إزالتها إلا بالصلح بين الفرقاء الذي به تزول الفتنة برمتها، ويرجع الأمر لأصله في الإباحة ؛ إذ عدمت الفتنة . وإن كان الجواب : ( نعم يمكن دفع المفسدة وإزالتها ، أو إزالة غالبها ) فلا شك ولا ريب ولا يختلف في هذا اثنان أنها جائزة وليست بمحرمة الآن ننظر في واقعنا المحلي ونسأل : هل يمكن إزالة المفسدة أو غالبها ؟ الجواب : نعم ، ولاشك في ذلك ، ولا ريب ، ولا يختلف في هذا اثنان السؤال : كيف تدفع هذه المفسدة وتزال ، أو يزال غالبها ؟ الجواب : بأمرين : الأمر الأول : ------------- بوضع ضوابط للقيادة ، كشرط السن ، و أماكن القيادة ، مثلا الأمر الثاني : ------------ بسن قوانين صارمة ، بالسجن المغلظ ، والفصل عن العمل ، والتأديب ، و الفضح على الملأ بالمتحرش ؛ إذ لا يوجد في العالم اليوم كله شعب تسيره القيم ونوازع الضمير ، ما يسير المجتمعات وينظمها ، ويدفع التعدي والعدوان من القوي على الضعيف فيها هي القوانين والنظم ؛ لأنه إذا عدم العقاب الرادع انتشرت الفوضى ، و اغتصبت الأموال ، وسفكت الدماء ، وانتهكت الأعراض في عقر البيوت المحصنة ، وليس فقط من ( امرأة تقود سيارتها ) و أخشى أن يكون من الجناية على الشرع الشريف أن يكون الأصل في الفتوى ( مراعاة المتحرش ) ، وهضم ( حق المتحرش بها ) ؛ فلكي نقضي على ( مفسدة التحرش ) نفتي بمنع ( المتحرَّش بها ) من بعض حقوقها التي ليس فيها دليل مستقل بمنعها منه ، بل الأمر يستند على قاعدة ( سد الذريعة المفضية للتحرش ) ، ولهذا لو طردنا قاعدتهم في تفعيل قاعدة سد الذريعة المفضية للفساد في الأمور التي يمكننا فيها دفع الفساد لحرمنا أمورا كثيرة من الحلال ؛ فمثلا : إذا كثرت سرقة السيارات نفتي بتحريم شراء السيارة ؛ لأن شراءها يفضي لمفسدة السرقة وضياع المال ، بدل أن نطالب بإزالة تلك المفسدة المقدور على دفعها ؛ وذلك بسن قوانين رادعة للصوص ، وتشديد الأمن . و إذا كثرت الحوادث في مدينة ما نفتي بحرمة قيادة الرجال للسيارة لأنها مفضية لمفسدة متحققة بتلف الأنفس و الأموال بدل أن نطالب بإزالة تلك المفسدة المقدور على دفعها وذلك بتفعيل قوانين المرور وتشديد مراقبة السائقين . الخلاصة : ------------- كما نوهت في بداية الخاطرة أن كلامي ليس عن حكم قيادة المرأة للسيارة بل هو خاطرة معرفية حول إعمال قاعدة ( سد الذريعة ) ، و نحن نتفق أن ( سد الذريعة المفضية للفساد ) قاعدة جليلة وعظيمة ، لكن الملاحظ كثيرا أن كثيرين من المفتين يغفلون عن التفريق بين ( المفسدة التي يمكن إزالتها ) و ( المفسدة التي لا يمكن إزالتها ) حينما يفتون بناء على قاعدة ( سد الذرائع ) ، وهو تفريق مهم جدا ؛ لأن تفعيل قاعدة ( سد الذريعة المفضية للفساد ) دون مراعاة هذا التفريق يجعل كثيرا من الأمور الجائزة محرمة ، وهذا ما يعسر على الأمة أمورها .