محمد بن عبدالله المشوح - عكاظ السعودية عندما تلقيت من سعادة وكيل وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية ومدير مركز حمد الجاسر الثقافي الدكتور ناصر الحجيلان خبر تكريم معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي، وذلك تقديرا من مجلس الأمناء لجهود معاليه العلمية والثقافية، عدت ورجعت إلى العلاقة الأولى التي بدأت بين العالمين الجليلين الشيخ حمد الجاسر والشيخ محمد العبودي. حدثني شيخنا قائلا إنه تعرف في أوائل الستينات الهجرية على الأستاذ ناهض بن عبدالعزيز الناهض عندما كان يعمل مسؤولا عن التفتيش في بريدة، وكان ناهض رحمه الله مثقفا وقارئا ثم انتقل لاحقا إلى الرياض قلم تنقطع الصلة بينهما. يقول شيخنا سنة 1370ه تقريبا قدمت إلى الرياض واتصلت بالأستاذ ناهض الذي دعاني إلى بيته قائلا إن لديه الشيخ حمد الجاسر ولعلنا نجتمع سويا. فحضر إلى بيت الأستاذ ناهض وكان هذا أول لقاء جمعه بالشيخ حمد الجاسر حيث تعمقت الصلة العلمية وصار الشيخ حمد الجاسر يهدي شيخنا بعض الكتب المهمة ويشجعه ويحثه على المزيد من الكتابة والتدوين ثم بدأ بنشر بعض مقالات الشيخ العبودي في مجلة اليمامة لاحقا. المؤكد أن الشيخ حمد الجاسر توقع من هذا الشاب الأربعيني آنذاك ملامح النجابة والنبوغ والتميز. فلم يتردد في كتابة تلك المقدمة الحافلة لكتاب شيخنا الأول الأمثال العامية في نجد والذي قام بطبعه سنة 1379ه بمشورة وتأييد من الشيخ حمد الجاسر الذي من المؤكد أيضا استبشر به خيرا مشيرا في تلميح عميق إلى أن ذلك سوف يكون بداية لدراسات تراثية علمية جادة عن أدب الجزيرة العربية وهو ما حصل بالفعل خصوصا من شيخنا محمد العبودي الذي نهض بهذه المهمة وصار إماما لتلك الدراسات الأدبية واللغوية في الجزيرة. يقول الشيخ حمد الجاسر في مقدمة ذلك الكتاب «وكتاب الأمثال العامية في نجد يعتبر باكورة طيبة من بواكير الدراسات الأدبية في قلب جزيرة العرب، هذه البلاد التي لا تزال بحاجة إلى كثير من الدراسات في جميع أوجه مظاهر الحياة العامة لسكانها، من تاريخية واجتماعية وأدبية وغيرها». إلى أن قال «ولئن كان من حق المؤلف الكريم على القراء وهذا من حقه بلا ريب أن يقدروا ما بذل من جهد حق قدره، وأن يستقبلوا هذا الكتاب أحسن استقبال، فإن من حق هؤلاء القراء على المؤلف أن يستنجزوه الوعد بسرعة إصدار القسم الثاني منه، وأن يستحثوا عزيمته، لا لاستكمال البحث في موضوع الأمثال فحسب، بل بالاتجاه إلى نواح عديدة أخرى في هذه البلاد بالدراسة والتأليف، لأن هذه الباكورة اليانعة الطيبة التي قدمها الأستاذ العبودي تدفع إلى التطلع إلى ثمار شهية ناضجة من دراساته المقبلة». وبالفعل وفى العلامة العبودي بما وعد به صديقه علامة الجزيرة الشيخ الجاسر فأصدر لاحقا الأمثال العامية في نجد في خمسة مجلدات الطبعة الأولى نشرته دار اليمامة بدعم من دارة الملك عبدالعزيز سنة 1399ه والثانية نشرته دار الثلوثية سنة 1431ه. لم تتوقف العلاقة بين العالمين الجليلين عند هذا فحسب، بل توجت كذلك باختيار الشيخ محمد العبودي لكتابة المعجم الجغرافي لبلاد القصيم وذلك بترشيح وإلحاح من الشيخ حمد الجاسر الذي لم يجد أكفأ ولا أقدر من العلامة محمد العبودي لكتابة هذا العمل العلمي العظيم. وكذلك صدق حدس الشيخ حمد الجاسر في صديقه فقدم للقراء والباحثين سفره الكبير معجم بلاد القصيم والواقع في ستة مجلدات وصدرت منه الطبعة الأولى سنة 1399ه ليكون شاهدا على الحس العلمي الراقي والذائقة البحثية المتميزة التي حباها الله الشيخ محمد العبودي. مما دعا مرة ثانية الشيخ حمد الجاسر إلى كتابة مقدمة نادرة لصديقه في معجم بلاد القصيم مناشدا منذ أكثر من أربعين عاما إلى تكريم هذا العلامة والاحتفاء به لقاء ما قام من هذا الجهد الكبير. وها هو مركز الشيخ حمد الجاسر ينهض بهذه المهمة برعاية وتشجيع ودعم من أمير التاريخ والثقافة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز الذي ما فتئ يشيد بجهود الشيخ ويرعى تكريمه والاحتفاء به في مناسبات عديدة كان آخرها تكريم دارة الملك عبدالعزيز له بصفته أحد أبرز الرواد لتاريخنا المحلي. لقد استطاع العلامة الشيخ محمد العبودي أن يقدم أنموذجا رائعا ومتميزا للعالم الموسوعي الذي يكاد أن تنقطع صفته في هذا الزمن بعد رحيل عدد من رموزه ورواده وعلى رأسهم علامة شيخ الجزيرة حمد الجاسر رحمه الله بل إنه كذلك أنموذج قدوة للمثقف السعودي الجاد الذي بذل وقته وجهده لخدمة العلم والأدب والثقافة فحسب. إن العلامة العبودي يحمل سمات علمية نادرة تستحق الدرس والعناية يقع في قمتها الجدية والانضباط والبعد عن الوهمية والشتات. إنه صاحب مشروع وإبداع وابتكار يحسن اختيار الموضوع ويبذل وسعه في تقصي المعلومة يحلل ويناقش لا يستسلم للرأي المجرد بل يستحضر الأدلة والشواهد ويحكم العقل والمنطق في دراسة الحدث والرواية. يأسرك في حديثه وتصغي إليه باحترام في جمال سرده وحكايته. لا يتعصب لرأي أو هوى يتراجع للحق ويعشق الحقيقة لكنه لا ينحاز أبدا للعاطفة المجردة. لقد رافقت شيخي سنين طويلة وعديدة فأذهلني ببحور علمه وسعة أفقه وحسن منطقه وسمته وخلقه. أحببت العلم والثقافة من كثرة ما رأيت تعلقه بهما، علمنا البحث والإبداع والدراسة لا النقل والتلقين. كتب في الرحلات وصار عميدها ودون في المعاجم وأحياها بعد موات فكتب في المعاجم اللغوية ما لم يكتب من قبل صنف في أخبار الدهاة والأذكياء ودون قصص وفكاهة الظرفاء. استنطق التاريخ عبر دراسته المضيئة الشاقة في الوثائق ففك رموزها وطلاسمها ونفض الغبار عن ورقاتها وتعاقب السنين عليها فترجم للأشخاص والأعيان وعرف بالمصطلحات الواردة بين سطورها وربط تاريخ الأجداد بحديث الأبناء والأولاد. حكى سيرة الوطن وشظف العيش وألم الجوع والفاقة قبل توحيدها على يد الموحد الملك عبدالعزيز وكأنك تشاهد تلك القصص والوقائع. إنه أشبه بال «السيناريو» المدون لتاريخ بلادنا لا ينفك عن التدوين ولا يمل من مرافقة القلم حتى غدا وأصبح بلا منازع إمام المؤلفين السعوديين، بل والعرب بلا منازع. وقال عنه وزير الإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة «إنه طرف من تاريخنا المضيء في شخص هذا العالم الجليل سيوطي العصر علما وتصنيفا وتأليفا وهو يعيد إلى أذهاننا تلك الموسوعية التي كانت ميزة من مميزات حركة التأليف في تراثنا الخالد». هنيئا للأستاذ معن الجاسر الذي بر بوالده ميتا كما بر به حيا حين تحققت أمنية الشيخ حمد الجاسر بتكريم صديقه العلامة محمد العبودي حين قال ما نصه: «إنني على ثقة من أن أحدا لن ينكر أن هذا المؤلف فذ في بابه وأن مؤلفه أفرغ جهده في عمله ومن هذه بعض صفاته أليس جديرا بأن يقدر خير تقدير؟!». رحم الله علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر وأمد في عمر العلامة عميد الرحالين وإمام المؤلفين المعاصرين الشيخ محمد العبودي ومتعه بالصحة والعافية. وخاتمة الشكر وأجزله لأمير الرياض وراعي الثقافة الذي جعل من الرياض قلعة للعلم وموردا للعلماء والمثقفين رغم مسؤولياته المتعددة.