بات من المستقر حال تتبّعنا نتائج النضال السياسي في مجتمعات ما قبل "الثورات الديموقراطية"، أن معارضة الأنظمة "لا تؤكل عيشًا" لكل من أراد أن يمشي "بجوار الحائط".. هذه واحدة من ثوابت العلاقة بين السلطة والمعارضة حال كانت الأخيرة "عفوية" وليس لها أية حسابات مرتبطة بمصالح المناضلين على الأرض.. وفي هذا السياق.. فإن غالبية المناضلين السياسيين الذين عارضوا الأنظمة السياسية المتعاقبة على حكم مصر على سبيل المثال عاشوا ثم ماتوا فقراء، بل إن بعضهم وهم قلة رأيتهم قبل ثورة 25 يناير وهم يتعلّقون بحافلات النقل العام القذرة والمتهالكة والمكتظة بما يفوق سعتها بعشرات المرات، ومنهم وكما رأيت بنفسي أيضًا من ضُرب في ضاحية "باب الخلق" بوسط القاهرة القديمة مثل الزميل الأستاذ مجدي حسين رئيس تحرير صحيفة الشعب الأسبق في الثلث الأخير من تسعينيات القرن الماضي (العشرين) أثناء حملته التاريخية على فساد عائلة وزير الداخلية الأسبق حسن الألفي، ومنهم من اختطفته مليشيات مسلحة مجهولة من أمام بيته في شهر رمضان منذ أعوام و جرى تلقينه "علقة ساخنة"، وتجريده تمامًا من ملابسه، وتركه في صحراء السويس قبيل الفجر عاريًا كيوم ولدته أمه، مثل الزميل الدكتور عبد الحليم قنديل، ومنهم من اختطف هو وزوجته رغم كبر سنه ومرضه بالسرطان مثل الراحل الكبير عبد الوهاب المسيري، والذي توفي بعد أن لم يجد في مصر من يعينه على العلاج، لولا تدخّل شخصية خليجية معروفة بالعمل الخيري، تكفّلت بنفقات علاجه خارج البلاد. تاريخ النضال السياسي في العالم، يؤكد على هذه الحقيقة: يموت المعارض الحقيقي، ولا يأكل من المتاجرة ب"ثدي" الوطن. غير أنه في مصر قبل انهيار نظام حكم الرئيس السابق حسني مبارك سُجّلت أغرب ظاهرة تتعلق بذلك الشأن، وهي أن "بزنس المعارضة" فتح على معارضين كبار "طاقة القدر" انتقلوا خلالها من الإقامة في عشش الإيواء والعشوائيات ليتفيّؤوا جنات تجري من تحتها أوراق البنكنوت والفلل والقصور الأسطورية! كان أكثر هذه الغرائب دهشة أن بعض الذين كانوا يشتمون مبارك ونجله، هم ذاتهم الذين أثروا ثراء فاحشًا في عهده!! بعدما دخلوا كبضاعة في سوق "الارتزاق الصحفي" وعرض أقلامهم للاستئجار لصالح سياسيين متنفّذين أو رجال أعمال أو قوى إقليمية لها أحلام وأجندات للهيمنة السياسية والعسكرية والفكرية على المنطقة. اتباع سبيل المعارضة كان عندهم من قبيل "غسل الأموال"، وللنصب على الرأي العام، باستجداء ثقته فيهم بصفتهم "معارضة".. وتحت مظلة هذه الثقة المنتزعة بالنصب والاحتيال، تجري عملية تمرير أجندات الممّول، ومن اشترى أقلامهم وضمائرهم، ودفع لهم بسخاء يتجاوز قيمتهم المهنية والسياسية وبمراحل كبيرة. كانت المبالغ التي تُدفع لمثل هؤلاء، لا يمكن أن تكون مقابل "إبداع صحفي"، لاسيما وأنه كان في مصر وحتى بعد الثورة قامات صحفية كبيرة مهمّشة ومعزولة بسبب طهارة يدها واستعصائها على التغرير والتوريط للعمل ضد المصالح الوطنية العليا، مهما كان حجم الأموال المعروضة عليهم. هذه واحدة من أخطر الظواهر التي ابتليت بها البلد ما قبل الثورة بعد السماح للمال الطفيلي والطائفي والشيعي، بالتحرك بسهولة بدون مراقبة أومسألة ليتصيّد "التّوافه" من محدودي الإمكانيات الصحفية وشراء ذممهم وتحويلهم إلى نجوم ومرجعيّات وزعماء، ثم تجنيدهم لاستهداف مصر في عقلها وحضارتها وهويتها وثقافتها العربية والإسلامية.. غير أن الظاهرة لم تنته بعد، فذات الوجوه لا تزال مهيمنة على كل قنوات رجال الأعمال "المتهمين في قضايا فساد، وفي انتظار دورهم في المثول أمام سلطات التحقيق، ووضعوا أيديهم على أهم أدوات صوغ اتجاهات الرأي العام، ودخلوا مؤخّرًا في حملة "بلطجة" إعلامية متطرفة، لتحريض الجيش على الإسلاميين بصفتهم "الخطر" الذي سيورّط مصر حال فازوا في الانتخابات المرتقبة في خصومة مع المجتمع الدولي.. وهي المعركة الأخيرة التي يخضونها دفاعًا عن مصالحهم "المالية" الضخمة، للحيولة دون تشكيل الإسلاميين للحكومة بعد الانتخابات المقبلة، والتي من المنتظر أن تكون أول انتخابات نزيهة تشهدها مصر منذ انقلاب يوليو عامم 1952، وهي المرحلة الجديدة التي يتوقع المتطرفون العلمانيون وأجنحتهم الإعلامية في الفضائيات الخاصة، أن تكون نهاية حقيقية لهيمنتهم التقليدية على الإعلام الخاص، والذي يعتبر الابن الشرعي ل"إعلام مبارك" المتخفي وراء شعارات ما بعد الثورة. صحيح أن هذه المواجهات، تختلط فيها حروب المصالح مع القتال بالوكالة عن حامل الشيكات الحقيقي، غير أنها في النهاية تمثل أكبر معركة ثقافية وفكرية وإعلامية على مستقبل هوية مصر العربية والإسلامية، في غياب إعلام إسلامي حرفي قادر على المواجهة ومؤهل لها.. بسبب هدر "المال الإسلامي" على تكوين إعلام لا يعتمد على المهنية والحرفية، وإنما على الشلليّة والانتماءات التنظيميّة والمشايخيّة، وهذه واحدة من أكبر الابتلاءات التي قد يدفع المصريون ثمنها غاليًا من هويّتهم المهدّدة.