نعاني في المملكة ككتاب ونقاد كما يعاني المحللون الماليون ممن يظهر على شاشات الفضائيات المتخصصة بالمال والأعمال من الكثير من الغموض الذي يصاحب الإعلان عن المشاريع الضخمة التي تقام في المملكة وعلى وتيرة سريعة جداً مؤخراً. الغالب الأعم من هذه المشاريع يحمل أرقاماً مالية كبيرة اعتادت آذاننا وعقولنا على سماعها في السنوات الأخيرة وأصبحت بسبب التكرار أرقاماً عادية ومقبولة. الواقع أن رقم مشروع واحد فقط من هذه المشاريع قد يكون موازياً أو حتى متجاوزاً لميزانيات دول بأكملها. الأرقام المعلنة لتطوير مطار جدة الدولي على سبيل المثال وليس الحصر، بلغت 27 مليار ريال سعودي كما تم الإعلان عنه ومن المفترض أن تزيد من قدرة المطار الاستيعابية إلى 30 مليون مسافر طلوعاً من 17 مليون مسافر هذا اليوم. النظرة الأولى لهذا المبلغ تدفعنا إلى الاعتقاد بأن المبلغ ضخم ومبالغ به. كلنا يعلم من خلال الرصد والمتابعة أن تكاليف توسعة مطار دبي الدولي لم تتجاوز أكثر من 17 مليار ريال وبطاقة استيعابية تجاوزت الأربعين مليون مسافر في السنة. كما أن المطار يعتبر درة رائعة من الجمال. هذا يعني عند المقارنة باستخدام رقم المسافر كمؤشر أن لدينا في مشروع المطار المذكور مبالغة في تكاليف هذه التوسعة. أتمنى في هذه الحالة أن تبادر الرئاسة العامة للطيران المدني بنشر تقرير مفصل يوضح أسباب هذا التضخم في التكلفة وما هي العوامل الرئيسية التي كان لها الأثر في ارتفاع قيمة العقد إلى هذه المستويات. هذا لا ينطبق كما أشرت على مشروع واحد. لقد أصبحت هذه المشاهد ظاهرة وهي ظاهرة غير حميدة على أي حال وأقصد بذلك ارتفاع تكلفة المشاريع وعدم إيضاحها للرأي العام. لا أدري حقيقة ما الذي يمنع من نشر تفاصيل مثل هذه العقود العامة لا سيما وأن نشرها قد يزيل الكثير من الغموض. فمثلاً وكل متخصص قد يدرك ذلك ويتفهمه، قيمة المشروع الإجمالية قد تشتمل على تكاليف أخرى غير مباشرة مثل نزع ملكيات وعقارات وبالتالي فإن القيمة المعلنة للمشروع لا تعني فقط البناء والتشطيب بل تكاليف للأراضي المنزوعة. حسناً نستطيع أن نفهم هذا لو تم الإعلان عنه. وما أشرت إليه هنا لا يقتصر كما ذكرت على هذه المشاريع. قبل البدء بتطبيق نظام ساهر كان الحديث السائد أن هذا النظام مكلف جداً بحيث بلغت تكاليف الكاميرا الواحدة مئات الآلاف. بينما وبعد المراجعة التي تمكنت من الاطلاع عليها اتضح لي أن تكلفة المشروع تتضمن وضع البنية التحتية الكاملة لتنفيذه. هذا يعني بناء أماكن جديدة وغرف خاصة وتدريب وتمديدات أرضية لم تكن متوفرة وكل هذا تمت إضافته إلى رقم القسمة وخرج علينا رقم كبير للكاميرا الواحدة. لو أزحنا كل هذه الإضافات لخرج علينا الرقم الخاص بالتكنولوجيا لوحدها معقولا ومقبولا ويمكن مقارنته بمشاريع أخرى في الخارج دون أي إثارة. مرة أخرى لماذا نختصر البيان الصحفي المصاحب للمشروع وكأننا نتطلع حقيقة إلى إثارة الناس من خلال هذه الأرقام الشمولية الكبرى؟ أقول ذلك مع أنني هنا استبعد وجود نزع ملكيات في مسألة مشروع مطار جدة ذلك أن العقد الموقع مع المقاول السعودي "مجموعة بن لادن" يشير تحديداً إلى ذلك المبلغ المعلن لبناء المطار بينما وجميعنا يدرك أن نزع الملكيات لا يتم عبر المقاول بل عبر جهات حكومية أخرى. هناك أيضاً بنود أخرى قد ترفع التكاليف ومنها الرغبة في السرعة في التنفيذ. تكاليف بناء مجمع جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بالرياض والذي سيعد تحفة معمارية وصرحاً تعليمياً رائعاً في مملكتنا الحبيبة، هذا المشروع يحتوي على بنود السرعة في التنفيذ كما أكد لي أكثر من مصدر مسؤول عنه. مثل هذا الشرط يرفع التكاليف إلى ما لا يقل عن 25% فوق الكلفة الأصلية بسبب الزيادة في بنود العمالة والأوقات الإضافية والطاقة ونحو ذلك. أنا هنا أتساءل هل كان من الضروري الاستعجال بالبناء إذا كان الفارق سنة أو سنتين على الأكثر؟ أقصد هل تتساوى التكلفة الإضافية مع الفائدة المرتقبة لاختصار عمر بناء المشروع بسنتين. أعود إلى موضوع مطار الملك عبدالعزيز في جدة للوقوف على التصميم وطريقة ترسية المشروع. لقد انتشر مؤخراً مقطع سينمائي افتراضي يوضح التصميم الداخلي وحركة الناس داخل المطار وواضح أن المقطع يشير بالفعل إلى المطار الجديد. أقول ماذا لو أننا اكتفينا بما أنجزته سنغافورة في مطارها الدولي والفائز بمئات الجوائز العالمية؟ ألم يكن ذلك أفضل وأقل تكلفة. شاهدت المقطع ووجدت الكثير من الفخامة والتكاليف المتعلقة بالنقل الداخلي من مترو سريع وصالات فارهة ومصاعد وغيرها. هنا نتساءل: من الذي أراد لهذا المشروع أن يصمم بهذا الشكل؟ وكم ستبلغ عقود الصيانة الخاصة به؟. هناك سؤال لا يقل أهمية، هل تم الانتهاء من الرسوم الهندسية لتفاصيل التوسعة ووضعها في خرائط بما يعرف بالرسوم الهندسية الكاملة التي تسبق الترسية على الشركة المنفذة؟. إن الفترة الفاصلة بين الانتهاء من الرسومات الهندسية وبين طرح المناقصة لأي مشروع لا تتجاوز الأربعة أشهر وحتى لو امتدت إلى تسعة أشهر، لماذا ضاق علينا الزمن ولم ننتظر الانتهاء من الرسومات حتى يتم التنافس على البناء بطريقة واضحة؟ مع توفر الرسوم المتكاملة، ماذا لو أننا قد اتبعنا طريقة تجزئة التنفيذ على أكثر من مقاول مؤهل استناداً إلى توافر الرسومات الكاملة وتوزيعها عليهم؟ هذه التجزئة ستوفر الكثير من المال كما أنها تمنح أكثر من مقاول الفرصة في المساهمة ببناء مثل هذا الصرح الهائل مما يعني توزيع فوائد المشروع على عدة جهات وقطاعات متخصصة. ترسية المشروع بطريقة "التصميم والبناء" إضافة إلى عدم قبولها إلا في أدق الظروف، تمنعنا من التجزئة المذكورة وتدفعنا إلى تحمل أعلى التكاليف الممكنة عبر مقاول واحد قد يتشرط فيما بعد ويطالب بالكثير من التغييرات. للمقارنة فقط مع مطار سنغافورة الدولي الذي أشرت إليه فقد بلغت طاقة هذا المطار الاستيعابية بعد التطوير 22 مليون مسافر في السنة وتكاليف البناء لم تتجاوز آنذاك ستة مليارات ريال. لو طبقنا عامل التضخم لارتفع الرقم إلى 9 مليارات بأرقام اليوم.