حزمة الأوامر الملكية الثانية جاءت مكملة للأولى التي كانت تعتمد على التنمية الاقتصادية بعيدة المدى، ولكون المواطن بحاجة الى متطلبات سريعة توازي طموحات وتطلعات شتى فئات المجتمع الثقافية والاقتصادية، فقد كانت الأوامر متنوعة تناولت الجانب الديني بالإضافة إلى الحياة اليومية لأفراد المجتمع من خلال الدفع بحل إشكالية الإسكان التي تشكل العقبة الكبرى لرفاهية المواطن السعودي والتي بموجبها يتحمل تبعات كبيرة من جراء القروض التراكمية التي تعطيها البنوك وهو ما يجعله في دوامة مستمرة وصراع مع البقاء لتلبيات متطلبات الحياة التي تزداد يوما بعد يوم، إلا أن هذه الأوامر لاسيما فيما يتعلق ببناء خمسمائة ألف وحدة سكنية ورفع حد الاقتراض في صندوق التنمية العقاري ليصل إلى 500 ألف ريال يشكل بوادر حل حقيقي للأزمة التي أتمنى ألا تصطدم بعقبات بيروقراطية، ليس تشاؤما، لكن جرياً على العادة في دوائرنا الحكومية. الإحساس العميق الذي تلقفه المواطن البسيط وهو يستمع إلى كلمة خادم الحرمين الشريفين يظهره الدعاء لهذا الملك الذي أولى اهتماما كبيرا بشعبه من خلال أوامر الخير والإصلاح التي صدرت منه حفظه الله. إن تنوع هذه الأوامر لتشمل الحديث الأكبر لدى فصائل المجتمع بشتى توجهاته كان في إنشاء "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد"، والتي ترتبط بالملك مباشرة، هذه الهيئة التي سوف تشغل العالم اليوم وغدا وبعد غد إذا ما كُتب لها المتابعة والصلاحيات الفاعلة. الإقرار بوجود الفساد هو أولى عمليات الإصلاح والمعالجة. لكن ينبغي ألا تطول هذه الفترة من الاعتراف والانتقال إلى ساحة العمل. ما لفتني في هذه الأوامر هو ما اشتمل عليه من ضخ مالي كبير للمؤسسات الدينية في الدولة والتي عانت منذ فترة من قلة الموارد، ورفعت الكثير من طلباتها لوزارة المالية دون إجابة، لكن أوامر الملك كانت ترسيخا لأهمية هذه المؤسسات في قطاعات الدولة لاسيما فيما يخصها في الجانب الديني الذي نطالب كثيرا بتحديثه وصقله دون أن نصرف عليه شيئا،فالمجمع الفقهي هو إحدى بوادر هذا الإصلاح من خلال مساعدة هيئة كبار العلماء في البحوث والدرسات المتخصصة التي تشكل الرؤية المستقلة بعيدا عن الآراء الفردية وهو ما كنت قد كتبت عنه مقالات سابقة (الفتوى) و(تأهيل المفتين) و (علماء المسلمين) وغيرها من المقالات التي تصب في هذا الجانب، إلا أني أتمنى أن يكون من أهداف هذا المجمع الفقهي ومن أولوياته الفتوى وتأهيل المفتين، فالفتوى اليوم طرأت عليها متغيرات كبيرة لعل من أهمها الانتشار الفضائي الذي يعد من أكبر الإشكالات التي تعصف بها! فالفتوى في أساسها شكوى حال بين المستفتي والمفتي يُقدر المفتي هذه الحالة وفق ما يملكه من أمور الشريعة ليعطي بذلك الفتوى التي تكتمل صياغتها عند معرفة حال المستفتي لكون المفتي موقعاً عن رب العالمين في فتواه التي هي بالدرجة الأولى للسائل وليست للبقية. وأتمنى من القائمين على تأسيس المعهد إنشاء معهد للفتوى يلحق به ويلتحق فيه خريج الشريعة المنشغل بالفتوى لدراسة بعض العلوم العصرية الإنسانية منها والتقنية لكي يكتمل العقد العلمي لدى المفتي بمعرفته الشرعية إضافة إلى ما لم يدركه الدارس في الشريعة من نقص في بعض العلوم الضرورية الحديثة وهو ما يمكن أن نسميه إعادة تأهيل أسوة بباقي الوظائف التي تتطلب اتصالاً مستمراً، ويمكن أن يلحق بهذا البرنامج المنشغلون بالفتوى بشكل مباشر في الجوامع ودور الإفتاء ومراكز الدعوة، إذا أردنا أن نؤسس بشكل عملي لحقبة جديدة من الخطاب الديني، ولاسيما ان الأوامر شملت افتتاح ثلاثة عشر فرعا للإفتاء بالمملكة، هذه الفروع يمكن إذا أسس لها على قواعد مدروسة أن تفعل الكثير. وسماحة مفتي المملكة يملك الكثير من الرؤية، وفي الهيئة شخصيات يمكن أن تدفع بهذا الاتجاه وتستثمره في وقته قبل فوات الأوان. ثمة مطالب من بعض الفئات تشمل التوسع في تجربة انتخابات المجالس البلدية، بل رأى البعض ما هو أبعد من ذلك كأن يكون جزء من أعضاء مجلس الشورى منتخبين. هناك عبارة تقول: إنه لا تنمية دون مشاركة، لأن التنمية تعتمد على الشفافية والمحاسبة التي تأتي بالمشاركة الشعبية، لكن ينبغي أيضا ألا تكون المشاركة والمطالبة بها على حساب استقرار البلد، بل تستند على هذه القوة المتمثلة في الاستقرار السياسي والاقتصادي، لأن الإخلال بها يمكن أن يؤدي إلى فوضى، وليس إلى تنمية ومشاركة. وأختم بمقولة للدكتور جون تشيبمان الرئيس التنفيذي للمعهد الدولي والدرسات الاستراتيجية في لندن "إن الحوكمة الجيدة أهم من الديمقراطية التي تقود إلى الفوضى". وضرب مثالا بديمقراطية باكستان والعراق وحوكمة سنغافورة وسيطرة الحزب الحاكم على السلطة منذ عقود والفرق الشاسع في التنمية بين الاثنين.