مهندس المحركات الذي تخرج من ألمانيا في منتصف القرن الماضي وحمل شهادة الدكتوراه فيها عاد إلى موطنه الأصلي تركيا ليطبق نظرياته الهندسية لكن ليس على المحركات هذه المرة بل على العقول والخوض في غمار السياسة التي كانت حينها أحد أكبر المحرمات على ذوي الخلفيات الدينية لكن (الثعلب) أو (الخوجة) أو (المعلم) كما يحب الأتراك أن يطلقوها على نجم الدين أربكان عراب نظرية الإسلام السياسي في تركيا استطاع أن يناضل منذ نهاية الستينات وتحديدا في عام 1969م عندما رشح أربكان نفسه عن مدينة قونية وفاز بمعظم الأصوات. عندما يذكر نجم الدين أربكان فإننا بذلك نتحدث عن أبرز رجالات الإسلام السياسي في العالم وليس في تركيا بل أحد أبرز المدارس السياسية التي استطاعت أن تتلون وتتعايش مع أشد الأنظمة العلمانية في العالم، فقد أسس أول أحزابه في بداية السبعينات الميلادية (حزب النظام الوطني) الذي اختار له رمز السبابة المرفوعة في السماء للشهادة! لكن هذا الحزب لم يكمل عاما حتى تم حله بقرار قضائي، إلا أن(الخوجة) في 1972م استطاع التأسيس لحزب (السلامة الوطني) الذي التف فيه على العلمانية التركية ودخل الانتخابات في 1972م ليفوز بخمسين مقعدا ويشارك أعتى الأحزاب العلمانية في تركيا في تشكيل حكومة وهو حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه كمال أتاتورك؟! شخصية أربكان القادرة على التعامل مع المتناقضات أثارت الكثير من التساؤلات عن مشروعه الإسلامي والذي كان يرسم ملامحه منذ عقود ليعيد تركيا إلى موقعها الريادي في المشرق. تجربة الإسلام السياسي التركي لا يمكن التأريخ لها بدون الحديث عن نجم الدين أربكان الذي كان يتلون مع أي قرار حل أو سجن أو إقصاء دون ملل أو يأس! وبرغم برجماتيته العالية إلا أن أربكان لم يكن يخشى من التصريح بآرائه الجريئة فعندما كان نائبا لرئيس مجلس الوزراء في حكومة أجاويد حاول أربكان فرض بعض قناعاته على القرار السياسي التركي، فقدم بعد تشكيل الحكومة بقليل مشروع قرار للبرلمان بتحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها، وأسهم في تطوير العلاقات مع العالم العربي، وأظهر أكثر من موقف مؤيد صراحة للشعب الفلسطيني ومعاد لإسرائيل، ونجح في حجب الثقة عن وزير الخارجية آنذاك خير الدين أركمان بسبب ما اعتبر سياسته المؤيدة لإسرائيل. السجن في حياة (الثعلب) التركي (أربكان) لم يكن لمرة واحدة بل مرات كثيرة كان في بعضها منفيا ولعل آخرها عام 2003م، إلا أن الحديث عن رحيل أربكان الذي أحزن الكثير من الأتراك في 27 فبراير 2011م لا ينفك عن حزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا اليوم بقيادة رجب طيب إردوغان وعبدالله غول، فتجربة حزب العدالة والتنمية كانت قفزة في تجربة الأحزاب الإسلامية التركية حيث إنها اعتمدت على التخلي عن الخطاب الديني الذي التزمته الأحزاب السابقة بقيادة أربكان، وقامت على استخدام خطاب يتفق مع الواقع التركي والعالمي. هذه اللغة الجديدة لم ترق للأب الروحي للحركة الإسلامية التركية أربكان فكان الانقسام بين الطرفين ولاسيما عندما أعلن حزب العدالة والتنمية استراتيجيته الداخلية في خمسة بنود شهيرة، ومن خلال هذه البنود دخل الحزب في تجربة جديدة وقضى سبعة أعوام صامدا في وجه الدكتاتورية العسكرية التي حاولت أكثر من مرة إزاحته والتخلص منه، إلا أن البراجماتية والمرونة التي يبديها الحزب على أرض الواقع جعلته الأكثر حظاً في الاستمرارية والتأثير ليس في تركيا فحسب بل على مستوى العالم من خلال استعادة دور تركيا في المنطقة، ووهج التجربة الحديثة المتزاوجة بين نقيضين في عالمنا العربي العلمانية والإسلامية لا يزال بحاجة إلى الكثير من التأمل. مؤسسو حزب العدالة والتنمية كانوا أتباع نجم الدين أربكان في كل أحزابه السياسية حتى عام 1998م عندما أسسوا حزبهم الجديد. الرئيس التركي ورئيس الوزراء الحالي لا يخفون احترامهم الكبير (للمعلم) ودهائه السياسي الذي علمهم الكثير وألهمهم فكرة حزب العدالة والتنمية التي هي بمثابة تمرد وانقلاب على نجم الدين أربكان والتفاف على الفكرة الإسلامية الصريحة إلى الفكرة الإسلامية المتوارية. لقد خسرت تركيا اليوم داهية ومعلما من الطراز السياسي الفريد الذي لم يعرف اليأس حتى آخر لحظة من حياته حيث قال مقربون منه إن أربكان كان يستعد لخوض الانتخابات مع حزب السعادة، لكن منتصف العقد الثامن كان موعد نهاية أربكان ومفارقته لهذه الدنيا وموراة جثمانه حيث صلي عليه في مسجد الفاتح الذي يعد أبرز معالم إسطنبول إذ تجمع عشرات الآلاف من الأتراك يتقدمهم الرئيس التركي عبدالله غول ورئيس الوزراء رجب طيب إردوغان. رحل أربكان وبقي نهجه في تلامذته في مدرسة الإسلام السياسي المستنير.