عندما تم حلّ حزب الرفاه الإسلامي في تركيا بقيادة نجم الدين أربكان في تسعينات القرن المنصرم، انشق أعضاء الحزب إلى محافظين وإصلاحيين، حيث شكّل المحافظون حزباً جديداً هو حزب الفضيلة، تم حلّه لاحقاً، وشكّل الإصلاحيون حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه اليوم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. لقد كان أردوغان وعبد الله غول من تلامذة أربكان النابغين وأعضاء في حزب الرفاه، إلا أنهم كانوا في خلاف مستمر مع أستاذهم حول سعيه في فرض نظريته حول الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي على الشعب التركي الذي يعيش منذ ثمانية عقود تحت ظل حكم علماني، أو بالأصح، حكم لا ديني، يحظر كل مظاهر الأديان وطقوسها. ولذلك، انتهجت المجموعة الجديدة نهجاً مغايراً لما كان عليه أستاذهم، فنزلوا إلى الشوارع، وقاموا بدراسات ميدانية واستطلاعات للرأي تسأل الناس عن أولوياتهم، وعن طموحاتهم، وعن صورة الحزب الذي يتمنونه، بل إنهم سألوا الناس عن مدى ملاءمة اسم الحزب لهم. وعندما تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في عام 2002 وأطلق رؤيته التي تدعو إلى النهوض بتركيا إلى مصاف الدول المتحضرة، أكّد أردوغان بأن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي يبقى أحد أهم أولويات حكومته، مخالفاً بذلك توجه أربكان الذي كان يعارض تلك الفكرة من منطلق ديني بحت. حيث كان أربكان يرى بأن العالم الإسلامي هو العمق الاستراتيجي الوحيد لتركيا، وسعى بذلك لإلغاء جميع التعاملات الاقتصادية التي لا تقوم على الشريعة الإسلامية، وطرح مشروعاً إسلامياً عاماً لتوحيد العالم الإسلامي تحت لواء تركياً. حيث اقترح إنشاء منظمة الأممالمتحدة الإسلامية، وصندوق نقد إسلامي وغير ذلك من مشاريع. ولهذا، أربكَ أربكان المجتمع التركي بأحاديته في مفهومه للدولة الإسلامية، ويبدو من أطروحاته أن الممارسات الدينية كانت أولى أولوياته، الأمر الذي قلب الجيش وباقي الأطراف العلمانية عليه وأنهوه قبل أن يصل صوته إلى أطراف الأناضول. إن نجاح أردوغان يُعزى، إلى جانب إصلاحاته الاقتصادية ومحاربته للفساد، أنه لم يحكم تركيا باسم الدين، ولم يفرض على الشعب نظرية خلافة الحاكم لله في الأرض، وهو أيضاً لم يلغ الدين من حياته ويتسربل بمبادئ أتاتورك القائمة على رفض الدين تماماً، ولكنه استطاع أن يعزز المفهوم الحقيقي للبرالية في مجتمع مسلم، وفي محيط إقليمي مسلم، بصورة لا تلغي النقل، ولا تقتل العقل أيضاً. إذا شاهدت أي زيارة خارجية لأردوغان فسترى بأنه يخرج من طائرته وهو ممسك بيد زوجته (أمينة) التي تلبس الحجاب والجلباب، دون أن يلتفت إلى انتقادات العلمانيين أو الإسلاميين، الذين يرفضون كلّهم شكلها وخروجها معه بهذه الطريقة. إن معظم أعضاء حزب العدالة والتنمية يمارسون الشعائر الإسلامية كالصلاة والصيام وغيرها، إلا أن الدين لا يلعب دوراً محورياً في أنشطة الحزب ولا يشكّل مرجعية لسلوكه السياسي، كما يقول الكاتب السياسي وأحد منظري الحزب فهمي كورو. أي أن أردوغان لا يسعى لاستصدار فتوى من أحد علماء الدين كلّما أراد أن يتخذ قراراً في حكومته، فالفكرة الليبرالية، التي يبدو أنه يتبناها بحكمة، نابعة من إيمانه بمبدأ حرية المعتقد وحرية الممارسة التي لا تتعدى الحدود الشخصية، وبذلك فإنه يستطيع أن يحرر السلطة السياسية من سلطة المؤسسة الدينية التي تنظر غالباً إلى الأمور من منظور الحلال والحرام فقط، كما هو الحال في كثير من دولنا العربية، ويستطيع أيضاً أن يعطي المؤسسة الدينية استقلاليتها حتى لا تفرض المؤسسة السياسية عليها توجهات معينة لخدمة مصالحها السياسية، وبالتالي، تتحول تلك المؤسسة الدينية إلى بوق يخدّر الناس ويوجههم كيفما أرادت السياسة لهم أن يتوجّهوا. إن أردوغان هو أفضل من يطبّق نظرية «العَقد الاجتماعي» في العالم الإسلامي اليوم، تلك النظرية التي أتى بها فلاسفة مثل جون لوك، وجان جاك روسو، وإيمانويل كانط، والقائلة بأن رضى المحكوم بالحاكم هو مصدر شرعية الحُكم، أي أن المحكوم إن كان راضياً عن الحاكم فإن ذلك الرضى هو مصدر سلطة الحاكم. وبالتالي فإن تطلعات الناس وطموحاتهم هي التي تحدد رؤية الدولة وليس العكس، ولهذا، التفّ جميع الأتراك بمختلف أطيافهم، علمانيين وإسلاميين، حول أردوغان عندما انسحب من جلسة الحوار التي تشادّ فيها بالكلام مع شمعون بيريز في منتدى دافوس، والمتتبع لخطابات أردوغان يجده لا يتورّع عن مهاجمة إسرائيل علانية متهماً قادتها بقتل الأطفال والأبرياء، بل إنه ألغى مناورات (نسر الأناضول) لأن إسرائيل كانت إحدى الدول المشاركة، قائلاً بأن الشعب التركي لا يريد مشاركة الطائرات التي قتلت أطفال غزّة. يتّهمني البعض بأنني إسلامي، ويصفونني أحياناً بالصوفي وأحياناً أخرى بالإخواني (من الإخوان المسلمين )، ويتّهمني البعض الآخر بأنني علماني، حتى جاءني أحدهم يوماً وقال لي بالعامية: «يا أخي خذ لك مسار وريّحنا». أقول لكل هؤلاء، بأنني لست إسلامياً، ولا صوفياً، ولا إخوانياً، ولا علمانياً، ولا أي صفة من الصفات التي تحبّون أن تلصقوها بالأشخاص قبل أن تتحاوروا معهم، وإن كنت متخذاً صفة فإنني «أردوغاني» أمارس جميع شعائر الدين وأفكّر بحرية دون أن أقحم الدين إقحاماً في أفكاري، ودون أن ألغيه من حياتي ومن ممارساتي اليومية. أستقي منه مبادئي وأنطلق منه، ولكنني مستعد لسماع جميع الأفكار ولمحاورة جميع الأيديولوجيات، الإسلامية والعلمانية، من أجل التعايش مع الآخر بسلام حتى وأنا أختلف معه، فلا ألغيه ولا يلغيني. لن أتخّذ مساراً غير التنوير، ولكم أن تضعوني في الخانة التي تناسبكم، فمكاني حيث ينبثق النور. لا أحب التصنيف لأنه أحد أبشع أنواع التمييز العنصري، ولأنه فساد فكري عشش في عقولنا مثلما عشش الفساد الإداري في كثير من مؤسساتنا العربية، ولأنه أحد معاول الهدم للعقل العربي، وهو أيضاً الحطب الذي يغذّي خطيئة الإقصاء التي يتفنن بعضنا في ممارستها حتى في داخل بيته لكل من يخالفه الرأي.