كتبت حينما كانت طبول الراقصين ممتزجة بطبول حرب الاحتلال، وقلت: إن هذه الحروب لن تكون برداً وسلاماً على المنطقة بل إنها نذير شؤم وبلاء عظيم.. وقد اختلطت أصوات شاذة تعاني من الهذر في تلك الهوجة بأصوات سياسية غربية تتحدث عن تغيير خارطة المنطقة، وكنا نقول: إن الاحتلال جريمة نكراء لا تقرها أعراف السماء ولا أعراف الأرض وأن تلك الذرائع التي تطرح لتسويق وتسويغ الحرب ذرائع كاذبة ومخادعة وخبيثة، أقول كان البعض يزغردون ويلوحون للجيوش الغازية، وكأن المنطقة مقبلة على ليلة عرس تاريخية ودارت رحى الحرب بأثقالها وثفالها على رؤوس الأطفال والشيوخ العزل مما جعل منطقة الحرب تغوص في الدم والدمار ونيران الحرائق فتبعثر كل شيء وتهدم كل شيء وتمزق كل شيء، فالمجتمعات المتآلفة تاريخياً تمزقت، فهجر أهل المدن عن مدنهم وأهل القرى عن قراهم ونزحوا إلى منازح بعيدة تاركين وراءهم أرضهم وتاريخهم، وحلت قوى شريرة تدفعها الكراهية والحقد المكتوم، وبات الاضطراب والعنصرية والمذهبية سيد الموقف.. وصارت لغة السكين فوق لغة الوطن، فوق لغة الحق والعدل.. وأصبح المقص يعبث في الخارطة عبثاً منكراً فتمزق «المكان» وتحول إلى كتل يعادي بعضها بعضاً وتحاول فيه الكتل القوية كتم الصوت وكتم الحرية وكتم النفس.. بل راحت كتل تعد نفسها للانفصال النهائي والأبدي. وفي الواقع لم يكن ذلك كله بعيداً عن بصر الصهيونية التي تعمل على تمزيق المنطقة العربية وتحويلها إلى دويلات وقبائل يقاتل بعضها بعضاً، ويتربص بعضها بالآخر في خوف ووجل وحصار من الارتياب. وقد كتبت منذ زمن طويل عن أن إسرائيل نجحت في تشتيت العرب وأنها دخلت مرحلة التفتيت، وما كتبته لم يكن منطلقاً من مجرد توجس وحذر ولكنه من منهج سياسي مطروح تحدث عنه بإلحاح واصرار: ابن قوروين رئيس أول حكومة للكيان اليهودي والذي قال إن إسرائيل الكبرى لن تقوم الا عندما يتحول الوطن العربي إلى أكثر من خمسين دولة، وها هي حمى الانفصالات (أقوم من ساعد على قدم) في أماكن كثيرة من وطننا العربي الذي أصبحت أرضه كالحصيرة المهترئة تتمزق وتتهشم وتتكسر بسهولة فدولة كردستان العراق أصبحت واقعاً وها هو جنوب السودان ينفصل عن شماله في هدوء وسلاسة واستسلام.. ومن يدري فقد ينفصل غربه عن شرقه أيضاً ولن أتحدث لكم عن البلدان العربية المهيأة نفسياً واجتماعياً ومذهبياً وعرقياً للانقسام والتشرذم، هذا الكلام ليس قائماً على التشاؤم أو التطير السياسي وإنما على استقراء للأحداث القائمة في المنطقة، وعلى البرنامج المعد والصريح لتغيير خارطة المنطقة وهو صادر عن مؤسسات قوم يفعلون ما يقولون ويمتلكون وسائل شريرة فوق إرادة وقدرة كثير من الشعوب.. فمن عادتهم أنهم يعملون على إنضاج أي مشروع سياسي بهدوء وصبر.. مع ان هذا الأمر تكرر على أسماعنا مئات المرات، ومن مسؤولين مختلفين مما يدل على إصرار واضح في تحقيق المشروع. وكنت أسأل دوماً إلى أي مدى سنظل نغرق، ونغوص في أعماق الغفلة؟! ومتى سنصحو ونعد أنفسنا إعداداً صادقاً ومستيقضاً لمواجهة مثل هذه الأخطار والمكائد والشرور؟! وإلى أي مدى سنظل نحسن النية بالعقارب والحيايا وهي تدب حولنا وتحاصرنا من كل مكان؟! وإلى متى سنظل ننتظر على من سيكون الدور وما هو المكان المرشح للتقسيم والتقطيع؟! إنه من الاخلاص للأمة والوطن ومن الشفقة والخوف عليه ان نتنبه لمثل هذه الألاعيب وإلى مثل هذا المكر السياسي.. بل أن نتنبه إلى من هم وراء هذا المكر وبالذات ممن يعلنون الوفاء والإخلاص وهم يبطنون الغدر والكيد.. فينخدع بهم الكثيرون ربما عن طيبة قلب وحسن نية، وربما عن غفلة وجهل.. وفي كلا الحالتين فإن الأمر شقاء بل بلاء عظيم.. كم يحز في نفسي وأنا أشعر أن العالم الأرضي للعرب يهتز ويتهاوى.. وكم يمزق قلبي أن أراه يجزأ كذبيحة تحت ساطور جزار!! كل ذلك يجعلني كلما قمت أو قعدت وكلما آويت إلى فراشي أدعو الله مخلصاً أن يحفظ هذا الوطن وأهله من كل بلاء وأن يجعله آمناً، مطمئناً بعيداً عن المكاره والمكائد والشرور.