نشرت «عكاظ» في العدد 16182 تحقيقاً صحافياً إحصائياً واستفتائياً عن حالات الانتحار في المملكة وتزايد أعدادها والدوافع من خلفها، وتضمن التحقيق أقوالا لفضيلة المستشار بالديوان الملكي وعضو هيئة كبار العلماء الدكتور عبدالله المطلق، وفضيلة الدكتور الشيخ علي الحكمي عضو هيئة كبار العلماء اللذين أكدا في أقوالهما أن الانتحار من كبائر الذنوب والمعاصي وأن مصير هؤلاء النار، وذلك استناداً إلى الحديث الذي رواه أبو هريرة أنه قال: «شهدنا مع رسول صلى الله عليه وسلم غزوة وكان من المجاهدين في صفوف المسلمين رجل قاتل قتالا شديداً فأصابته جراح وقد مات، فقال عليه الصلاة والسلام: إنه في النار» فتعجب الناس كيف هذا من المجاهدين ثم يقول عنه الرسول عليه الصلاة والسلام إنه في النار، ثم عرف الناس أنه لم يمت بجراحه في المعركة، وإنما اتكأ بعدها على ذباب سيفه ليقتل نفسه ليتخلص من شدة الألم من الجراح. ولكن الشيخ المطلق والحكمي لم يحكما على أهل الانتحار هذه الأيام بالكفر أو أنهم من أصحاب النار لاحتمال وجود أسباب وأعذار نفسية خلف هذا الفعل وأوجبوا أن يغسل هؤلاء المنتحرون ويصلى عليهم مثلهم مثل غيرهم من المسلمين. ولكن هذا الموقف الذي وقفه فضيلة الشيخين المطلق والحكمي كان ينبغي معه إيضاح هذا موضعه في حق من اشتهر عنهم هذه الأيام بلفظ «الانتحاريين»، وهم الذين يأتي الرجل منهم أو المرأة أحياناً ويربط في وسطه حزام متفجرات يخفيه تحت ثيابه ثم يدخل به بين الناس في الأسواق والأتوبيسات أو المساجد أو التجمعات أو مكاتب المسؤولين كما حصل في مكتب الأمير محمد بن نايف مساعد وزير الداخلية ليقتل الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال وغيرهم بحجج واهية وعقلية فاسدة، وهؤلاء الانتحاريون يعلمون تمام العلم واليقين أنهم سوف يكونون أول القتلى من جراء فعلهم الشنيع هذا، وهو حكم انتحاري بلا شك ولا جدال، فهل مثل هؤلاء الانتحاريين يحكم عليهم أنهم ليسوا من أهل النار؟ إذا كان ذلك الصحابي فهو صحابي أولا الذي كان يجاهد مع الرسول عليه الصلاة والسلام فهو مجاهد ثانياً وأثخنته الجراح ولم يصبر على آلامه فقتل نفسه ليتخلص من تلك الآلام، ثم يقول الرسول عليه الصلاة والسلام عنه إنه في النار، لأنه اتكأ على ذباب سيفه ليقتل نفسه، فما يكون حال هؤلاء الذين يقتلون الأبرياء والنساء والأطفال وغيرهم جهاراً نهاراً؟! فكان من الأكمل والأجمل في حق الشيخين المطلق والحكمي زيادة الإيضاح والبيان في حق هؤلاء القتلة المفسدين لئلا يختلط الحابل بالنابل على الناس فيحسبون أن مثل هؤلاء المجرمين في منأى وعصمة من النار، ومثل هذا السكوت من الشيخين الحكمي والمطلق في هذا الموضع عن سوء عاقبة هذا الفعل القبيح الشنيع يجعل أهل الفسق والفساد والضلال ومن هم على شاكلة هؤلاء الانتحاريين يستسيغون هذا الفعل القبيح ويستهترون به، وليس لأحد من الناس أياً كان سوى الرسول عليه الصلاة والسلام بما طلعه الله عليه ليس لأحد أن يحكم أن هذا أو ذاك من خلق الله بعد موته في الجنة أو في النار على وجه التعيين كأن يقول «زيد» في النار أو «عمرو» في الجنة، فهذا من علم الله ومشيئته وإرادته، ومعرفة الرسول عليه الصلاة والسلام بهم إنما تكون بما أوحى إليه الله، فالرسول لا يعلم الغيب، خلاف ذلك فلا يملك أحد من الناس كائناً من كان أن يحكم على الأفراد بالتعيين أن هذا في النار وذاك في الجنة، ولكن الذي عليه أهل العلم أن من يفعل ذلك الفعل فإن جزاءه عند الله النار من غير جزم ولا تخصيص ولا تعيين، وهذا يفضي بنا إلى قصتين مشهورتين في سجلات العقيدة، الأولى في قصة أسامة بن زيد الذي استسلم له رجل في غزوة من الغزوات في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ووقع في قبضة أسامة في المعركة وكان أسامة يعلوه بالسيف والرجل تحته فأعلن الشهادة وقال أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومع ذلك قتله أسامة معتقداً أنه إنما قالها ليسلم من القتل، ثم عندما رجع إلى المدينة وأخبر الرسول بهذا الخبر غضب عليه الرسول عليه الصلاة والسلام غضباً شديداً وظل يردد قوله «كيف لك بلا إله إلا الله»، جاء في صحيح مسلم (237/47) من حديث ابن أبي شيبة عن أسامة بن زيد أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية في الحرقات من جهنة، فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للرسول فقال «أقال لا إله إلا الله وقتلته؟» قال قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا شققت عنه صدره حتى تعلم أن قالها أم لا. فما زال عليه الصلاة والسلام يكرر «كيف لك بلا إله إلا الله»، وجاء في هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة في البخاري (25/23): «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.. فإذا قالوها منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل». وخلاصة هذا الكلام أن المرء إذا نطق بالشهادة فالأصل أن يعامل معاملة المسلمين بصرف النظر عما في قلبه، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعامل رأس المنافقين عبدالله بن سلول معاملة المسلمين بل قام على قبره يصلي عليه عند موته، ونخلص من حادثة أسامة هذه أن المرء لو نطق بالشهادة وقد أدركه الموت فلا يحكم عليه إلا بالظاهر وهو أنه مؤمن، والقصة الثانية المشهورة عند أهل العقيدة هي قصة فرعون، فإن نطق بالشهادة على وجهها وأعلن إيمانه بالله وتوحيده له عندما أدركه الموت كما جاء في قوله تعالى «فلما أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين». وهذه شهادة واضحة وصريحة، ولقد قال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى «وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا أدركه الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار». وفرعون إنما مات بعد النطق بالشهادة، فهو على الأصل لم يمت كافراً، والأصل في حقه أيضاً أنه ليس عليه ذنوب لأنه إنما نطق بالشهادة فوافته المنية على الفور ولم يكن لديه ثمة حياة بعد الشهادة يكون مجالا لارتكاب المعاصي، وما كان قبل إيمانه من السيئات والمعاصي فحسابه على الله، بل قد قال عليه الصلاة والسلام «الإسلام يجب ما قبله». بمعنى أنه ما كان للمرء من سيئات قبل إسلامه فحكمه العفو، وهذا الحكم شبيه بالذي قال في حقه الرسول عليه الصلاة والسلام في رجل دخل الجنة ولم يركع ركعة واحدة لله في صلاة، لأنه إنما أسلم في أرض المعركة وكان مع المشركين ثم أسلم وانحاز إلى صف المسلمين وقاتل معهم حتى قتل ودخل الجنة بشهادته فقط من غير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا شيء من فروع العبادات هذه، ولقد قال سبحانه وتعالى: «وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً» بمعنى أن العمل الصالح الذي هو ما أمر الله به من العبادات ونحوها لا قيمة لها من غير الشهادة، فالشهادة أولا وأخيراً هي الحد الفاصل بين الكفر والإيمان.