قد يجد الإنسان الباحث عن المعرفة لذته في البحث بعيداً خارج إطار ثقافته، وهذا الفعل في آخر قناعاتي ليس سوى حالة هروب وفرار من المواجهة، فتأريخ الفلسفة الغربية على سبيل المثال يشبع نهمة حب المعرفة والاطلاع إلى حد كبير، وكيف انتقل الإنسان من إطار المعرفة الدينية المجردة، إلى مرحلة ما يسمى بحقبة الفلسفة المسيحية الوسيطة، حين قررت الكنيسة أن أرسطو خطر، وأنه لا بد من السيطرة عليه بتبنيه، وجعل فلسفته إحدى المعارف الخارجة من تحت العباءة الباباوية، على طريقة قرّب أصدقاءك واجعل أعداءك أقرب منهم، لكي تراقبهم بشكل جيد. بلا شك أن هذا كان فعلاً قمعياً التفافياً، إلا أنه كان أفضل مما فعله فقهاء إسلاميون حاربوا الفلسفة جملة وتفصيلاً، فخسرنا بذلك أكبر خسارة مرت بنا منذ أن أعزنا الله بالإسلام. ثم جاءت حقبة توماس أكينوس (توما الإكويني) والقديس أوغسطين ليمثلا الوجه العقلاني والوجه الصوفي لما يسمى جزافاً بالفلسفة المسيحية الوسيطة، فكانت بهما الإرهاصة الأولى لبزوغ عصر النهضة وتحرر التفلسف من سلطة الكنيسة، ثم مجيء الإنكليزي فرانسيس بيكون الذي كان المؤسس الأول للمنهج العلمي التجريبي ومن بعده الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الذي لم تكن نتائج فلسفته مساوية للإنجاز العظيم الذي تجلى في منهجه القائم على ربط الوجود بالتفكير، وقوله بضرورة اطراح كل مشكوك فيه، وبناء اليقينيات على اليقينيات في سبيل الوصول إلى المعرفة المحضة (انظر كتابه: كلمة عن المنهج) وما حدث بعد ذلك من تمايز بين صفين، صف يؤمن بالتجربة وما يقدمه المختبر ويرفض ما سوى ذلك كما فعل باروخ سبينوزا الذي نحا بالفلسفة الديكارتية في هذا الاتجاه، وبين من بقوا على عهد الفلسفة الأم، الفلسفة المثالية التي تؤمن بضرورة الصلح الدائم مع الدين، وأن العقل يمكنه وحده تقديم المعرفة الحقيقية وأن الحواس يمكن أن تخدع الإنسان وتوهمه، كما يتوهم العطشان وهو يسير في الصحراء أنه يسير باتجاه الماء الذي تراه عيناه، وليس ذلك الماء سوى سراب. ثم جاء القرن السابع عشر، عصر التمرد العقلي على الدين وتطور الفلسفة المادية التجريبية وقوتها وتغلغلها أكثر في المجتمعات المسيحية وهو أيضاً عصر الثورة الفرنسية في خاتمته، ثم جاء القرن الثامن عشر، عصر الفيلسوف الذي اعتبره أعظم فيلسوف مر على الدنيا، أعني الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت الذي أعاد الاعتبار للدين بإبرازه لأول مرة الدليل الأخلاقي على وجود الله، ووضع حدود العقل المجرد، والذي قال "إن المعرفة يمكن أن يوصل إليها من خلال العقل المجرد المبني على التصورات الذهنية الخالية حتى من التجارب السابقة ومن الحواس المراقبة للتجربة المشاهدة في نفس الوقت"، فأنهى بذلك صراعا غير مبرر بين التجريبيين والمثاليين وجدلاً بيزنطياً استهلك جهد من كانوا قبله. إذا مررت بهذه التجربة، أنت أيها العربي المسلم، ستشعر لا محالة، أن الثقافة العربية الإسلامية تحتاج لمثل هذه التجربة النقدية والرحلة الروحية العظيمة، وليس الهدف من تلك الرحلة هو الانسلاخ من هويتنا العربية الإسلامية، كما يعتقد المتشككون إذ هو مستحيل الحدوث أصلاً، وإنما المقصود هو نظرة محايدة إلى الذات بعد حدوث حالة الاغتراب عنها على حد تعبير الفيلسوف الألماني العظيم هيجل، فحالة الاغتراب هذه هي مرحلة مهمة جداً للعودة، بل هي ضرورة لا انفكاك عنها، وهذه العودة للتراث هي ضرورة لن يجد وجه الباحث عن المعرفة قدرة على الصدود عنها أو الانشغال بتاريخ الأمم الأخرى، فالأمم الأخرى لا تحتاج جهودنا في البحث في تراثها أو تقديم الحلول لأزماتهم الفكرية، في حين ترزح مجتمعاتنا تحت نير التخلف والعجز الذي لا نهضة لنا منه إلا بالعودة إلى تراثنا، وأنسنته واستخلاص القوانين والقواعد والنظم منه، بما يتناسب مع الحياة المعاشة، ويحقق تطور وتحرر الإنسان، ويتسبب في رفاهيته وغناه ويضمن له حقوقه كاملة.