أثار الشيخ صالح كامل، رجل الأعمال المعروف ورئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية بجدة، في تعليقه على بيان منسوب لأحد علماء الدين اتهم فيه الغرفة بإماتة الأخلاق والدعوة للاختلاط، قضية تردّدت كثيراً في الحديث عنها وهي خلط البعض بين العادات والتقاليد وبين الأحكام الدينية. فلقد لخّص الشيخ صالح في ردّه على ما يكيله البعض لغرفة تجارة جدة، بل وإلى المجتمع الجداوي قاطبة، بالانفلات عن ما يعتقد هؤلاء بأنه مبادئ الشرع والدين وذلك عندما قال رداً على البيان: «إننا لسنا مبتدعين، بل نحن متّبعون لقواعد الدين السمحة، ولا نتّبع عادات، بل ما أمرنا به الله تعالى» وبالرغم من أن الدين الإسلامي دين يسر إلّا أن المجتمعات الإسلامية اُبتليت بفئات من أبنائها تُغلّب الحكم بقوانين البشر (العادات والتقاليد) على الدين.. وتتمسك بالموروث الاجتماعي والعادات والتقاليد حتى وإن كانت بالية وربطها على أنها من الدين. ويرى البروفيسور الأردني خالد عبدالرؤوف الجبر الباحث والاستاذ في جامعة البتراء الأردنية أن تداخل التعاليم الدينية مع العادات والتقاليد أدى إلى أن يكون الحكم الديني في الكثير من الحالات أسهل وأيسر وأخفّ من حكم العادات والتقاليد، مشيراً إلى أن بعض العادات والتقاليد في المجتمعات العربية تتعارض أساساً مع أحكام الدين. كما يرى الجبر أن الالتباس بين الحلال والحرام وبين ممنوعات المجتمع هو «التباس موجود في أذهاننا لكنه ليس التباساً حقيقياً، وليس ناشئاً عن التعارض بين التعاليم الدينية والعادات والتقاليد، بل عن ظن كثير من الناس أن الدين يبتعد عن العادات والتقاليد ولا يورثها، حتى في التعاليم والتشريعات تكون العادات والأعراف والتقاليد أحيانا هي الحكم الديني»؟! ومن العجيب أن يتناسى هؤلاء بأنه على ثرى مكةالمكرمة الطاهر، وفي اليوم الثامن من ذي الحجة من السنة العاشرة من الهجرة، منذ أكثر من أربعة عشر قرنا مضت، بيَّن رسول البشرية محمد بن عبدالله رسالته في خطبة الوداع، وتسمى حجة الإسلام وحجة البلاغ وحجة الكمال وحجة التمام، بيّن صلى الله عليه وسلم أصول الإسلام، وقواعد الدين، ووضّح مقاصد الشريعة، يتعلم منها الصحابة، والأجيال المسلمة.. كان فيها جوامع الكلم، وهي خطبة تُعتبر وثيقة من وثائق الإسلام، ومثلا أعلى لكل داعية ونموذجاً يحتذى به. وفي نهاية خطبة الوداع سأل المصطفى عليه الصلاة والسلام الناس: وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد بأنك قد بلّغت وأديت ونصحت.. فقال: بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس، اللهم اشهد ، ثلاث مرات.. ثم أذّن المؤذن وأقام، فصلّى بالناس الظهر والعصر جمع تقديم قصرا.. ثم أتى عرفة فاستقبل القبلة ونزل عليه قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً». [المائدة : 3] كانت «خطبة الوداع» جامعة مانعة تمثل نموذجاً من الهدي النبوي الشامل المتكامل، ورؤية واضحة ومنهجا اجتماعيا متوازنا ومتناسقا بين مراعاة حقوق الفرد والجماعة والرجل والمرأة والأسرة. كانت دستورا رائعا و «خارطة طريق» لبناء مجتمع متكامل متكافل متكاتف يشدّ بعضه بعضا، تتكامل فيه جهود الفرد والجماعة والأسرة والمجتمع. فكيف يأتي اليوم من يضيف أو يفسّر أو يحوّل هذا النهج الشامل إلى معانٍ بعيدة عن النهج الإسلامي الذي رسمه الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي الختام.. نقول إننا لا ننتقص هنا من قدر أحد ولا من عاداته وتقاليده التي جُبل عليها. لكن الإسلام حثّنا على البعد عن العصبية والقبلية وعن عادات الجاهلية، لذا فيجب أن لا يفرض أحد عاداته الخاصة وتقاليده على المجتمع كله باسم الدين. وإذا كان لنا غيرة فإنها يجب أن تكون أقوى على ديننا منها من غيرتنا على عاداتنا وتقاليدنا الاجتماعية أو القبلية. ولقد غفل هؤلاء بأن التدين إذا كان مبنيا على العادات وحدها فإن العادات عادة ما تكون غير ثابتة تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان. فلو تغيّرت العادات والتقاليد أو انهارت لانهار التدين القائم عليها. بينما إذا كان التدين مبنياً على قيم الدين فإنه يكون تديناً ثابتاً بثبات الدين نفسه وصلاحه لكل زمان ومكان. ويجب أن يكون معلوماً أن الإسلام نزل في مكة أفضل أرض وأقدس بقعة تهفو إليها أفئدة المسلمين في شتى بقاع الدنيا، وخرج منها محمد رسول الله.. فلا يزايد أحد على أهلها لا في دينهم ولا في نبيهم. وأهل مكة ومنطقتها، كما في غيرها من مناطق المملكة الشاسعة، يؤمنون بالله ويسيرون على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وينبذون العنف والتطرف، ولكنهم لا يسكتون على أي أمر فيه إساءة للدين أو يستبدلون تعاليم الدين بالعادات والتقاليد. وإذا كان المثل الشعبي المشهور يقول بأن «أهل مكة أدرى بشعابها» فإن أهل مكة هم أيضا «أدرى بدينهم».. وطوبى لمن يستطيع أن ينقي الإسلام من بعض العادات والتقاليد البالية!.