إذا كان الطلاق الذي يتم إما برغبة الزوجين أو أحدهما هو أبغض الحلال عند الله رغم أنه قد يكون حلاً ضرورياً في بعض الأحيان عندما تستحيل العشرة بينهما، فما بال التفريق بين زوجين مسلمين رغماً عنهما!! هل يعد هذا أمراً جائزاً أو حتى مقبولاً وخاصة حين يتم لاعتبارات ما أنزل الله بها من سلطان بل ذمها الشرع ونهى عنها كالعصبية القبلية وما شابهها من دعاوى الجاهلية. وقد تعد مثل تلك القضايا شأناً داخلياً في مجتمع بعينه، فقط في حال ما إذا كان يتم الإقرار بأن ما يصدر من أحكام يعود إلى العادات والتقاليد الخاصة بذلك المجتمع، حينها لن يكون لأي فرد لا ينتمي إليه أن يناقش الموضوع لا من قريب ولا من بعيد. ولكن أن يتم إلصاق هذا العبث بالدين الإسلامي فهذا شأن جميع المسلمين في جميع أنحاء العالم أينما كانوا. أولاً لأن ما يحدث هو إساءة للدين الإسلامي وتشويه لصورته فالدين الإسلامي جاء ليحقق العدل والمساواة بين البشر ولا فضل فيه لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح، ثانياً لأن الإسلام ليس حكراً على مجتمع بعينه، قال تعالى في كتابه الكريم مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". وكذلك البحث في العلوم الشرعية لا يقتصر على فئة بعينها من المسلمين لأنه ليس هناك ما يسمى بالكهنوت في الإسلام، أي أنه لا يحق لأي شخص ادعاء تفرده في امتلاك العلم الشرعي دون باقي أفراد المجتمع المسلم. نعم، نحن لا ننكر وجود علماء متخصصين في الفقه وفي الشريعة، كما أننا لا ننكرر وجوب تقديرنا لهم، ولكن فارقاً كبيراً جداً بين التقدير والتقديس فهؤلاء العلماء بشر يصيبون ويخطئون أي إن أقوالهم يمكن أن ترد عليهم، كما أن وجود هؤلاء العلماء المتخصصين في العلوم الشرعية لا يسقط عن باقي أفراد المجتمع الإسلامي فريضة التعلم والمعرفة خاصة فيما يتعلق بأحكام الدين الذي هو أساس ومنهاج حياة كل فرد مسلم في أي مكان في العالم. لهذا السبب لم أجد حرجاً في البحث في الكتاب والسنة وكتب السيرة وتراجم الصحابة والتابعين عن مسألة الكفاءة في الزواج خاصة بعدما تصدرت بعض القضايا المتعلقة بها الصحف المحلية في الآونة الأخيرة، وما ترتب على الحكم بالتفريق بين الزوجين - على أساس عدم كفاءة النسب - من هدم لأسر مسلمة وتشتيت أفرادها، فوجدت أن ما يحدث من تفريق بين الأزواج بسبب الاعتبارات القبلية ليس له أساس في الشرع الإسلامي، ولا أصول فقهية معتبرة كما يدعي البعض والذي لم يدعم مزاعمه تلك بأي واقعة فعلية واحدة حدثت في عصر النبوة أو في عهد الصحابة أو التابعين وتم فيها التفريق بين زوجين بغير رغبة أيهما على أساس تلك الاعتبارات الجاهلية العصبية التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة". وخاصة بعد إتمام عقد الزواج واستيفاء جميع شروطه الشرعية الصحيحة التي هي (الإيجاب والقبول بين طرفي العقد - الولي - الشهود - الإعلان). والأهم من ذلك أن مسألة الكفاءة تلك حين توضع في الاعتبار كشرط من شروط قبول ولي المرأة تزويجها من رجل ما، يجب أن تُحسم من قبل إتمام عقد الزواج وليس أبداً بعد بناء الأسرة واستقرار الزوجين في الحياة الزوجية والتي قد يكون من نتاجها وجود أطفال كثمرة طبيعية وشرعية للعلاقة بينهما. وللرد على الرأي القائل بأن التفريق بين الزوجين والقائم على عدم كفاءة النسب ما هو إلا دفع لضرر كبير وشر مستطير وحقن للدماء.. الخ من العبارات الطنانة التي من شأنها ترسيخ العادات الجاهلية، الأولى بهم أن ينظروا إلى الضرر الأكبر الذي يصيب الأمة الإسلامية كلها ويشق صفوفها بسبب تأصيل تلك العادات في النفوس وما تثيره النزعات القبلية والطائفية من بغضاء بين أفراد المجتمع المسلم بأكمله. وقد ثبت في الصحيح عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة، فيأتيه الشيطان فيقول: مازلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول: أنت أنت! ويلتزمه!". وفي كتاب الله الكريم: "فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه" الآية 102من سورة البقرة. فالتفريق بين الرجل وامرأته من عظائم الأمور في الشرع الإسلامي الحنيف وليس كما يدعي البعض أنه جائز بحجة عدم كفاءة النسب!! لأن مدلول كفاءة الزوج للزوجة في الشرع الإسلامي يعني في أصله الصحيح بأن يكون الزوج حراً ذا خلق ودين وأمانة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". الترمذي (المصدر: كتاب منهاج المسلم باب النكاح، ص308). ومن خلال بحثي أيضاً في تراجم الصحابة والتابعين لم أصادف واقعة واحدة تم فيها تقويض دعائم أسرة مسلمة للاعتبارات القبلية والعنصرية، بل إنني حتى لم أصادف في سيرة أي صحابي أو تابعي أنه في تزويجه لبناته اعتبر الكفاءة في الزواج هي كفاءة نسب أو غنى ولكن الكفاءة التي كانت معتبرة لديهم حقاً كانت كفاءة الدين والأخلاق والأمانة والعلم، ذلك لأنهم فقهوا الشرع فقهاً صحيحاً وسليماً تبعاً لكتاب الله وسنة رسوله وليس اتباعاً لأهوائهم. فعمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه زوج ابنه عاصم إلى الفتاة الفقيرة بائعة اللبن التي لم تكن ذات حسب ونسب وإنما كانت تخشى الله في السر والعلن، فكان ثمرة هذه الزيجة المباركة ابنة أنجبت خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، والذي طبق هو نفسه المبدأ القرآني العظيم "إنما المؤمنون إخوة" فقضى على النزعات الطائفية والقبلية، فتحقق العدل وساد في عصره وعم الخير حتى أن الشاة كانت ترعى بجانب الذئب لا تخشى منه على حياتها. وكما يروي ربيعة بن كعب خادم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: ناداني النبي ذات يوم وقال: "ألا تتزوج ياربيعة"، فقلت: "ما أحب أن يشغلني شيء عن خدمتك يا رسول الله، ثم إنه ليس عندي ما أمهر به الزوجة ولا أقيم حياتها به"، فسكت ثم رآني ثانية وقال: "ألا تتزوج يا ربيعة"، فأجبته بمثل ما قلت له في المرة السابقة، لكني ما إن خلوت إلى نفسي حتى ندمت على ما كان مني وقلت ويحك يا ربيعة والله إن النبي صلى الله عليه وسلم لأعلم منك بما يصلح لك في دينك ودنياك وأعرف منك بما عندك، والله لئن دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه المرة إلى الزواج لأجبته، لم يمض على ذلك طويل وقت حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تتزوج يا ربيعة"، فقلت بلى يا رسول الله ولكن من يزوجني وأنا كما تعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلق إلى آل فلان وقل لهم: إن رسول الله يأمركم أن تزوجوني فتاتكم فلانة"، فأتيتهم على استحياء وقلت لهم: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم لتزوجوني فتاتكم فلانة"، فقالوا: "فلانة؟" فقلت: "نعم" فقالوا: "مرحباً برسول الله ومرحبا برسول رسول الله والله لا يرجع رسول رسول الله إلا بحاجته، وعقدوا لي عليها"، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقلت: "يا رسول الله لقدجئت من عند خير بيت، صدقوني ورحبوا بي وعقدوا لي على ابنتهم". (المصدر: صور من حياة الصحابة للدكتور رأفت الباشا، ص 373- 374). فإذا كانت مسألة كفاءة النسب معتبرة في الزواج كما يزعم البعض الآن الى الحد الذي يوجب التفريق بين الزوجين بعد عقد النكاح الصحيح والذي تم في الأصل بموافقة الولي، لما أقر الرسول صلى الله عليه وسلم زواج ربيعة بن كعب من تلك الفتاة، ولا كان أقر نكاح زيد بن حارثة من زينب بنت جحش قبل زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم لحكمة أرادها الله وهي إبطال عادة التبني التي كانت سائدة في الجاهلية. وما كان كذلك زوج أبا حذيفة - والذي كان مولى لإمرأة من الأنصار - من هند بنت الوليد بن عتبة. ولا كان زوج بلال بن رباح الحبشي الأصل بأخت عبدالرحمن بن عوف. فهل نحن أعلم بما هو معتبر في الزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم!!. أما الصحافي الجليل أبو الدرداء، فقد خطب يزيد بن معاوية ابنته "الدرداء"، فرده ولم يقبل خطبته. ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم فزوجها أبو الدرداء منه. وعجب الناس لهذا التصرف، فعلمهم أبو الدرداء قائلا: "ما ظنكم بالدرداء اذا قام على رأسها الخدم والخصيا وبهرها زخرف القصور.. أين دينها يومئذ". (المصدر: رجال حول الرسول للكاتب خالد محمد خالد، ص 336). ولا يخفى على مسلم ما كان لسعيد بن المسيب من مكانة مرموقة في عصره، إلا أنه أبى أن يزوج ابنته من الوليد بن عبدالملك وزوجها من أبي وداعة. يقول أبو وداعة: كنت أداوم على حلقة سعيد بن المسيب وأزاحم الناس عليها بالمناكب فتغيبت عن حلقة الشيخ أياماً فتفقدني وظن بي مرضاً او عرض لي عارض. فسأل عني من حوله، فلم يجد عند أحد منهم خبراً. فلما عدت اليه بعد أيام حياني ورحب بي وقال: أين كنت يا أبا وداعة؟" فقلت: "توفيت زوجي، فانشغلت بأمرها". فقال: "هلا أخبرتنا يا أبا وداعة فنواسيك، ونشهد جنازتها معك ونعينك على ما أنت فيه". فقلت: "جزاك الله خيراً.. وهممت أن أقوم". فاستبقاني حتى انصرف جميع من كان في المجلس ثم قال لي: "أما فكرت في استحداث زوجة لك يا أبا وداعة؟" فقلت: "يرحمك الله ومن يزوجني ابنته وأنا شاب نشأ يتيماً وعاش فقيراً، فأنا لا أملك غير درهمين او ثلاثة دراهم". فقال: "أنا أزوجك ابنتي". فانعقد لساني وقلت: "أنت؟ أتزوجني ابنتك بعد أن عرفت من أمري ما عرفت؟" فقال: "نعم، فنحن إذا جاءنا من نرضى دينه وخلقه زوجناه وأنت عندنا مرضي الدين والخلق". (المصدر: صور من حياة التابعين للدكتور رأفت الباشا، ص 202). إذاً فالكفاءة التي ذهب جمهور الفقهاء الى أنها مسألة معتبرة في الزواج، إنما هي كفاءة الدين والخلق والاستقامة والعلم، لا كفاءة النسب والجاه والسلطان كما فسرها البعض في عصرنا الحالي ممن يغلبون العادات والتقاليد على أحكام الشرع الحنيف. ومن المفارقات العجيبة التي يعجز الكثيرون عن فهمها أنه في الوقت الذي يتم فيه هدم بيت مسلم وتشتيت أسرة مسلمة سعيدة بالتفريق بين الزوجين وبغير رغبتيهما اتباعاً لعادة جاهلية مذمومة نهى الرسول صلى الله عليه عن التمسك بها، نجد على الجانب المقابل فتيات صغيرات يتم إجبارهن على الزواج من كهول تخطت أعمارهم الستين والسبعين. فأين هي مسألة الكفاءة المعتبرة في مثل تلك الزيجات التي يتعدى فارق العمر فيها بين الزوجين في بعض الأحايين الأربعين عاماً!! أم أننا أصبحنا كاليهود نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؟!!.