يعد تقيم الآخرين من حيث «الصلاح» واحداً من أكثر القضايا تعقيداً ويصعب البت فيها؛ بسبب تقييم الغالبية للأشخاص من ظواهر الأمور وقشورها، متناسين أن الجوهر أعمق وأكثر أهمية في معدن الانسان، وبقيت قضية الالتزام الديني بين الناس على اختلاف ثقافاتهم ومستوياتهم الاجتماعية وخلفياتهم الفكرية من أكثر الأمور التي لا تجد معايير واضحة للحكم فيها، فهل يقيّم الشخص من يريد -سواء رجلاً أم امرأة- بدرجة التزامه بالأمور الشرعية؛ على اعتباره رجلاً ملتزماً أو داعية، من منطلق موافقة شكله الظاهري، والذي غالباً ما يأخذ به كثيرون، أم بتقييم خلقه وتعامله وموافقته لمفهوم الصلاح الحقيقي؟. وماذا عن العصر الحاضر الذي بدأت العولمة تتوسع حتى تشابكت المفاهيم، واختلط الحابل بالنابل، وأصبح هناك كثير من الأمور البينة يشوبها كثير من الخلط، وبقي تقييم الشخص أن يكون من «الملتزمين» أو من عامة «المسلمين» مثار اختلاف، في ظل محاولة عدد من الملتزمون دينياً الانسجام مع العولمة والانفتاح، وبين الرجل المسلم الذي يكون على خُلق يتماشى مع مفهوم الانفتاح الحالي، وتتوارد الأسئلة تباعاً حول الرجل الملتزم الذي يبدو عليه الصلاح حينما يزور المقاهي المختلطة، والأسواق المزدحمة، ويجلس في المطاعم المكشوفة، ويرتاد معارض الكتاب، يعتبر رجلاً ملتزماً، ومنفتحاً وقد خالف مفهوم التدين الحقيقي كما يعتقد البعض؟، وهل الرجل المتمدن الذي يحافظ على الصلاة، ويلتزم بالأخلاقيات الحسنة، ويتعامل مع الناس بالحسنى، لكنه لا تظهر عليه علامات الصلاح بمقياس -البعض-، ويرتدي البنطال الجينز الضيق ويضع الجل على شعره، ويرتاد السينما هل لا يعد رجلاً ملتزماً بالمفهوم الشرعي الصحيح؟. يبدو أن هناك إلتباساً في تقييم درجة الصلاح والخُلق لدى غالبية أفراد المجتمع الذي يقيس مقدار «الإيمان» بظاهر المرء، فمن هو الرجل المتلزم الحقيقي بالمفهوم الشرعي الصحيح؟ وهل معيار المظهر الخارجي للإنسان شرط أساسي في تقييم الآخرين والحكم على درجة صلاحهم؟ أم أن المضمون دوما لابد أن لا ينفصل عن المظهر الخارجي للإنسان؟ وهل تغير «الداعية» في عصر العولمة، وتركت عليه آثارها واختلف عن الماضي؟. معايير الصلاح: صحة المعتقد «الثوابت» والوعي ب«المتغيرات» والعمل النافع لخدمة الإنسانية المعايير الأساس أوضح «زين العابدين الركابي» -المفكر الإسلامي- أن الاعتبار العرفي للأخلاق والاستقامة قد يصح و قد لا يصح، فإن من الأعراف ما هو حميد رشيد ومنها المضاد لذلك، ومن هنا فإن المعايير الأصلية الثابتة للإنسان الصالح سواء كان رجلاً أو امرأة هي صحة المعرفة، وصحة الاعتقاد أو الإيمان، والعمل الصالح بمفهومه الواسع النافع، قائلاً: «إذا توافرت هذه المقومات فإنها تثمر سلوكا فاضلاً، وخلقاً رفيعاً»، مبيناً أن «الأخلاق» ثمرة لهذا المنهج، وليست إضافة ملصقة إلى ما يضادها من جهل، وفساد اعتقاد، ورداءة عمل، مضيفاً: «الشكل الديني لا يكفي للحكم على الناس بالاستقامة، فالحديث النبوي يقول (إذا جاءكم من ترضون دينه و خلقه فزوجوه)، فلماذا أضيفت صفة الخُلق إلى صفة الدين هاهنا؟، ولماذا لم تكن صيغة الحديث إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه فحسب؟ هنا يتبدى المضمون الأخلاقي الاجتماعي العميق لهذا الحديث الجليل»، مشيراً إلى أن التدين قد يكون شكلاً مبتوت الصلة بثمرته وهي الخُلق، وقد يكون شكلاً يغطي رذائل شتى، ومن المضمون أن على الأسرة التي جاء رجل يخطب ابنتها أن تُعمِل المعيار الأخلاقي في تقويمه، ولا تكتفي بمجرد دينه، وذلك باستحضار مقياس الاستقامة الخُلقية في الحكم على الناس، عاصم من الغرر والضرر، ومن الانخداع بالمظهر. الاتصال الثقافي مع شعوب الأرض يقلّل من فرص التطرف والانغلاق وأوضح أنه لا ريب في أن للتدين مظاهر معتبرة مع التحذير من الغلو فيها، قائلاً: «من حق الناس أن يتمتعوا بحرية التدين مخبراً ومظهراً طالما أن لهذه المظاهر سنداً شرعياً صحيحاً، لكن منهج الإسلام قضى بالعناية بالجوهر والتركيز اليقظ عليه في المقام الأول، مثل ذلك الطهر الباطني أو القلبي حمايته من كبائر شهوات الرياء والشهرة»، مبيناً أن من أعظم الأعمال الدينية هي قراءة القرآن والتصدق على الفقراء والمساكين والجهاد في سبيل الله. مظاهر مزيفة! وبيّن «الركابي» أن هذه الأعمال الجليلة قد تكون طريقاً إلى نار جهنم لمن يرائي بها ويبحث عن الشهرة فيها، مستشهداً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «ان أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة، ثلاثة: قارئ للقرآن، ومتصدق، ومجاهد في سبيل الله»، لماذا كان مصيرهم هكذا تعساً بائساً شقياً؟ السبب كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الأول قرأ ليقول الناس أنه قارئ، وأن الثاني تصدق ليقول الناس أنه متصدق، وأن الثالث جاهد ليقول الناس أنه مجاهد»، مبيناً أن صور أعمال هؤلاء دينية في قمة المطالب والعزائم، بيد أن الباعث على هذه الأعمال غير نظيف، وغير طاهر، وغير مخلص، ولذلك بطلت أعمالهم و تسببت في سوقهم إلى النار. أحمد الهاشم مضمون الشكل وأكد «الركابي» على أن الشكل الديني لا بد أن يكون مضمونه أفضل وأرقى منه بمقياس التقرب إلى الله عز وجل، مثل السواك من السنن النبوية، وتطهير للفم مما علق به من بقايا الطعام وغير ذلك مما ينبغي تنظيف الفم منه، ولكن الذي يستعمل السواك كسُنة دينية عليه أن يتذكر ما هو أعظم من تنظيف الفم من اللوثات التي تلحق به، ويتذكرأن يطهر فمه من كل ما يؤذي المجتمع من كذب وإرجاف وقذف وسب وشتم ولعن وغيبة ونميمة وبهتان ولغو وبذاءة وفحش في القول، مضيفاً: «ما قيمة فم منظّف بيولوجياً، مُنجّس في الوقت نفسه بهذه النجاسات المعنوية؟.. إن الذي يفرق بين الطهارتين الحسية و والمعنوية لم يأت بالسنّة على وجهها الصحيح، أي سنّة السواك»، مبينا أن المسلم قد يجتهد في إقامة الصلوات في المساجد ويواظب على ذلك، ومع هذا قد لا يجتهد في تخليص قلبه وسلوكه من موبقات لا تتناغم مع الصلاة، موضحاً أن الموبقات مثل الحقد والحسد والكبر والغلظة، ومن مقاصد الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، مضيفاً: «إذا توافرت للمسلم مقومات المعرفة الصحيحة، والإيمان الحق، والعمل الصالح، والخلق الرفيع، فإنه لا تضره -بإذن الله- نواقص فيما دون ذلك»، منوهاً أن النقص يلازم كل إنسان، والله تعالى لم يخلق الناس ملائكة معصومين مطهرين، بل خلقهم على هيئتهم يصيبون ويخطئون، ويحلّقون، ويتعثرون، والأهم أن ترجح كفة الصلاح فيهم على كفة الفساد. زين العابدين الركابي الالتزام مطلوب ولفت «أحمد الهاشم» -رئيس فرع الدعوة والأوقاف والشؤون الإسلامية والإرشاد- إلى أن الالتزام مطلوب من العالم والمتعلم والعامي، فجميعهم مطالبون أن يكونون وفق تعاليم الإسلام، فنطلق على الملتزمين دعاة في حين يطلق على البقية بالمسلمين، والدعاة عليهم أن يمسكوا «العصا من النصف»، وأن يتعاملوا مع الناس من منطلق المدارة والتغافل والتغاضي وجميعها مطلب من مطالب الإسلام، مضيفاً: «على الداعية أن لا ينتقد كل شيء، ويدقق في كل شيء حتى لا يصعب تقبل الالتزام، فالإمام أحمد بن حبل يقول (تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل)، أما من يتزمت وحينما يدخل بيته يغضب من لبس ابنته وهو لم يخل بالحشمة، أو لا يرغب في الجلوس على مقاعد حديثة، أو يرتدي ثياب رثة من باب الزهد فإن ذلك غير مقبول»، منادياً أن يكون هناك مجاراة للحياة بما يوافق الإسلام، فالمنع يكون في التعدي على حدود الله وما يغضب الله سبحانه. ديكور ظاهري! ويرى «د.حمود عوبه» -أستاذ الفقه في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية- أن الرجل الملتزم الحقيقي هو العادل والمنصف مع نفسه وغيره، أما من يعتمد في إثبات التزامه على الديكورات الظاهرية التي أصبحت للأسف ستائر للسلوكيات الخاطئة، فإن ذلك ليس من الالتزام بشيء، موضحاً أن الالتباس الذي يحدث من قِبل المجتمع بالحكم على التزام الرجل ومدى مصداقيته يأتي من الخلفية البيئية التي تقيم الناس من منطلق الظاهر وشكلهم الخارجي، على الرغم من أن الباطن لا يعلمه إلاّ الله -سبحانه- ولذلك فإن عمر رضي الله عنه قال:»هل جالسته، هل سافرت معه، قال له لا .. قال إذا لا تعرفه»، منوهاً ليس المهم ما يبدي الرجل من شكل ظاهري حتى يحكم عليه بالصلاح، ولكن الأهم تعامله مع الناس وخلقه، فمن يظهر التزامه بتقليد شكل الملتزمين الظاهري وهو ليس كذلك كونه يظهر ما لا يبطن، وليس للناس مكسب فيه في حالة إظهاره للالتزام فإن الالتزام والصلاح إنما لله. وأشار إلى أن ما يهم في الرجل الملتزم هو ما يرتكز عليه مع الآخرين في تعامله وإنصافه وشهامته، وأداء الواجب ومعرفة الحقوق، مبيناً أن من يعتقد أن العولمة تفسد صلاح الرجل أو المرأة فإنه مخطئ، فالعدل والإنصاف والمروءة إذا وجدت في ظل العولمة الحالية والانفتاح فإنها تكون شيئاً جميلاً، مضيفاً: «لا أتوقع أن يكون للعولمة أثر سلبي على الرجل الملتزم من التأثير على صلاحه وتقاه بل على العكس تماما، فإنها لابد أن تزيد من إيمانه وتقواه ومحافظته، فالدين الصحيح المرتبط بالنصوص الصحيحة لا يوجد به تعارض مع أي شيء من مظاهر الحضارة، إلاّ أن الخلط بين التقاليد وما تعارف عليه الناس من مواريث المجتمع، وبين الدين الحقيقي الذي نصت عليه الأحاديث، والانطلاق في الحكم على معايير الالتزام من خلاله فإن ذلك غير مقبول». وأوضح أن نماذج الرجال والنساء الملتزمين بالشكل الحقيقي موجودين ولديهم من الدين ما يجعلهم قدوة حسنة للآخرين، إلاّ أن الممارسات الخاطئة التي تصدر من البعض ونظرة الازدراء واحتقار الناس، والتصور أنه قد تجاوز القنطرة وأن غيره من سقط المتاع، فإن ذلك غير مقبول، مضيفاً: «المجتمع هو من أسهم في خروج ذلك النوع من الملتزمين الذين حينما يأتي إلى المكان يستقبل بالتصفيق وكأنه منزه، ومختلف عن غيره، إلاّ أن الرجل الملتزم الحقيقي الذي يعمل بحسن الخلق بصرف النظر عن ما يلبس طالما ستر عورته، ولم يخل بما يتعارض مع الالتزام الديني، كما هو حال المرأة التي يجب ان تكون متقيدة بالزي المحتشم. وسطية واعتدال أكد -أحمد الهاشم- على أن المسلم حينما يطلق عليه «مسلم» يجب أن يكون ملتزماً بالتعاليم الإسلامية السمحة، وهي التعاليم الوسطية، دون أن يكون هناك تعقيد أو رهبانية، أو بدع أو تزمت. وقال: «الوسطية الربانية التي وصفنا الله سبحانه بها في القرآن الكريم، وسطٌ في كل شيء من حيث العبادة والفرائض والتعامل مع الناس، وفي التجارة، والتعامل الأسري، والتعامل مع الأرحام والجيران، ومع الناس في الشارع والسوق، ولا يكفي أن تكون ملتزماً بمظهرك وأنت مفرط ببر والديك، وقاطع لرحمك، وتسيء معاملة زوجتك وأبنائك، فإن تلك السلوكيات صورة سيئة للإسلام، موضحاً أن النظرة العامة للناس حينما يشاهدون رجلا مظهره الخارجي يدل على الالتزام يعتقدون أنه «ملاك»، وربما تظهر منه سلوكيات غير لائقة، مشدداً على أن المسلم لابد أن يلتزم بالسلوك الحسن، وبالتدين الحقيقي الذي لا غبن فيه ولا غش، وهو التدين الذي يكون فيه ظاهر الرجل وباطنه كما هو. وأشار إلى أن الالتزام لا يعني البعد عن الحضارة والعولمة وعدم الذهاب للأسواق عند الحاجة؛ لأن تلك من الرهبنة، فالإسلام يشمل جميع ميادين الحياة.