تظل الأقلية الدينية داخل الدولة الإسلامية "جماعة مأمونة" طالما استظلت بالثقافة والحضارة الحاضنة، بصفتهما قوام "وحدة الهوية"؛ إذ تبقى الأخيرة في حصانة الاجماع العام، وليس "التعدد الديني".. فالأخير لا يعني تعدد الهويات؛ حيث يحظى دين الأغلبية وحده بحق تقرير الهوية الوطنية للدولة، وهذه واحدة من ثوابت علم الاجتماع السياسي. لا يحدث شرخ في الهوية الوطنية إلاّ إذا أحالت الأقلية الدينية الدين من "عقيدة" إلى "هوية" موازية للهوية "الأم" للدولة.. وتُعدّ مصر نموذجاً لمثل هذا التحوّل، منذ استيلاء ما يُعرف بتنظيم "الأمة القبطية" المتطرف على مقاليد إدارة الكنيسة الأرثوذكسية في سبعينيات القرن الماضي "العشرين"؛ إذ أحالت الكنيسة الارثوذكسية "النصرانية" إلى "هوية" موازية لهوية مصر العربية الإسلامية، وبات المصريون يسمعون لأول مرة بأن "القبط" هم أهل البلاد الأصليين، وأن المسلمين المصريين "غزاة" ومحتلون، وعليهم الرحيل والعودة من حيث جاؤوا إلى "الجزيرة العربية"! بمضيّ الوقت وبتراكم التلقين عبر الأجيال خلال العقود الأربعة الأخيرة، توحش الدور السياسي للكنيسة، وباتت هي مناط الولاء والبراء بالنسبة للأقباط، واستقر في الوعي العام الجمعي القبطي، بأن الدولة في صيغتها المسلمة تُعدّ "حالة طارئة"، و"كياناً مغتصباً" من قبل "البدو" الذين جاؤوا بصحبة الفاتح العربي المسلم عمرو بن العاص في القرن السابع الميلادي.. أي وضعها في صورة خصومة و"علاقة ثأر" تاريخي مع المسلمين المصريين. أحال هذا الشحن والتحريض الطائفي الكنسي، الجماعة القبطية إلى "جماعة رخوة" أقرب رحماً إلى "الغرب المسيحي" من "الشرق العربي"، ما جعلها حالة سهلة الاصطياد والتوظيف، ورأس حربة للاختراق وللابتزاز واستغلال مشاعر "الثأر" في توظيف "العملاء" بصفته عملاً مشروعاً ضد "العدو" التاريخي المغتصب للبلاد. على سبيل المثال لا الحصر، نشر مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية عام 2004 إعلاناً أعلى الصفحة الافتتاحية لموقع أقباط المهجر (كوبتس دوت كوم) يطلب جواسيس و عملاء يعملون لصلح أل (اف بي أي).. ولم يُنشر إعلان مثله في المواقع العربية الأخرى المنتشرة بالملايين على شبكة المعلومات الدولية "الإنترنت"، يطلب من خلاله عملاء وجواسيس عرباً! حدث ذلك بالتزامن مع الكشف عن تورّط أحد مترجمي الاستخبارات الأمريكية في العراق و اسمه "عادل النخلة" -وهو قبطي مصري هاجر إلى الولاياتالمتحدة- في فضيحة انتهاكات سجن "أبو غريب" ببغداد ضد المعتقلين العراقيين التي شملت انتهاكات جنسية، وإجبار المعتقلين على التقاط الطعام من المراحيض؛ وهو ما أدى إلى فصله لاحقاً من شركة (تايتن كورب) التي تعمل على تقديم خدمات لغوية واستخباراتية لقوات الاحتلال الأمريكي في العراق؛ بعد أن تأكد صدق أقوال أحد معتقلي أبو غريب بأن شخصاً عربياً اسمه "أبو عادل المصري" قد اشترك في الإساءات الجنسية بحق المعتقلين العراقيين. هذه الواقعة وغيرها كثير وبالعشرات تعكس خطورة تعمّد الاقليات الدينية اللعب في مربع "الهوية الوطنية".. أو طرح السؤال بشأنها مجدداً بعد استقرارها في الضمير الوطني العام، واتفاق الجماعة الوطنية عليها مهما تعدّدت وتباينت ألوانها المكونة للطيف الديني والإثني داخل الدولة الواحدة.. إذ تظل الهوية العامة خطاً أحمر ومسألة أمن قومي لا يجوز مطلقاً العبث بها درءاً لمفاسد ولشرور تفوّق قدرة أجهزة الدولة مهما كانت خبراتها السياسة والأمنية على سدّ أبوابها.