في أحد البرامج التلفزيونية تحدث أحد المواطنين بحماسة معبرا عن استنكاره وغيرته على الدين والأخلاق ومعلنا غضبه على ما فعلته متاجر بندة وواصفا له بأنه سبيل إلى الفساد والإفساد تستحق أن تعاقب عليه بمقاطعتها وعدم التبضع منها. ماذا فعلت بندة؟ وظفت النساء ليعملن محاسبات (كاشيرات)! فاستحقت السخط والمطالبة بمقاطعتها ليس في جدة فحسب حيث تعمل النساء، وإنما في كل مكان توجد فيه! كنت أنصت إلى حديث ذلك الرجل وفي ذهني سؤال حائر، ما الذي يثير سخط هؤلاء المحتجين على عمل النساء في محاسبة المشترين؟ أليس المتسوقات من النساء يقفن أمام الرجال (المحاسبين) ليدفعن قيمة مشترياتهن؟ فما الذي يتغير في الأمر عندما تعكس الأدوار فتصير النساء محاسبات والرجال مشترين؟ لم غضب أولئك المحتجون؟ لقد حاولت أن أجد اختلافا بين الحالين فما رأيت، المرأة في كلا الحالين مرتدية اللباس الساتر، والمرأة في كلا الحالين تتخاطب مع الرجال وتسلمهم المال وتستلم منهم، والمرأة في كلا الحالين تقف مواجهة لهم لا يفصل بينها وبينهم سوى الطاولة التي توضع عليها المشتريات، فأين الاختلاف الذي اقتضى الغضب على بندة والمطالبة بمقاطعتها؟ إني هنا لست بصدد الدفاع عن بندة، فأنا لا أملك سهما واحدا فيها، ولا يمسنى في شيء إن هي أفلست أو ربحت، لكن ما يعنيني هي نموذج الرؤية الذي نتناول به حياتنا ونطبقه في التعامل مع المستجدات فيها، خاصة أن هذا الغضب العارم الذي يصيب البعض عند رؤيتهم لأمر جديد مخالف لما نشأوا عليه واعتادوه، يجد دعما وتأييدا من بعض الفقهاء أو الدعاة الذين لهم مكانتهم في قلوب الناس، فيماثلونهم في استنكارهم ويجارونهم في غضبهم، وينساقون معهم في تصوير الأمر وكأنه حمية للدين وغيرة على الأخلاق. هذا الغضب لا يبدو خلفه سند علمي يدعمه، وهو أقرب لأن يكون تعبيرا عن ردة فعل عاصفة تجاه حدث جديد لم تألفه العيون من قبل، شأنه شأن كثير من الأمور الأخرى المستجدة في حياتنا التي تواجه في بدايتها بكثير من الرفض والنفور ثم ما تلبث أن تشق طريقها لتستقر ضمن المألوفات، وربما جاوزت ذلك لتصير ضمن المطلوبات والمتصارع على الحصول عليها. إن هناك كثيرا من النساء العاطلات واللاتي هن في أشد الحاجة إلى الكسب سواء لإعالة أنفسهن أو أسرهن، والعمل في المحاسبة هو من أبسط الأعمال وأيسرها بالنسبة للنساء حيث لا يحتاج إلى حركة ولا إلى جهد عضلي، ومن الخير لهن ولبلدهن أن يقمن بهذا العمل من أن يسند إلى عمالة وافدة تجلب معها الفساد وصنوف الانحرافات وبعد ذلك تصدر المال المكتسب إلى بلدها فتضر ولا تنفع.