أحمد عبدالرحمن العرفج - المدينة السعودية أزعُم أنَّني خَبير فَتاوى، وقَد احترفتُ هَذه المهنة مُنذ أكثر مِن عشرين سَنة، ومازلتُ أجْمَعُ و«أَلُمُّ» ما شَرَدَ وبَعُدَ؛ مِن كُل فَتوى شَاردة، أو رُؤيا دِينيّة وَاردة.. وقبل فَترة جَاءت قصّة طَريفة -لكم أن تَتصوّروا مَشهدها الذي حَدَث- في إحدى القَنوات الفَضائيّة..! السَّائل (خ. ر مِن اليَمن)، ويَبدو أنَّه مِن قُرى الجِبَال، يَتَّصل قَائلاً: (أنا رَجُل مُتزوّج مُنذ عشرين سَنة، وعندي ستّة أطفال، وقَبل فَترة جَاءت إلينا امرأة عَجوز وقالت: (إنَّ زَوجتي هي أُختي مِن الرِّضَاعة.. مَاذا أعمل في هذه الحَالة)..؟! رَدّ الشّيخ- الذي لا يَظهر عليه التَّبحُّر في العِلْم- قَائلاً: هَل الرِّضاعة في الحولين الأوّلين مُشبعة..؟! فرَدَّ السَّائل اليَمني -ويظهر أنَّه مِن البُسطاء، وحظّه قَليل مِن التَّعليم- قَائلاً: إيش تقول..؟! حينها، تَدخَّل المُذيع في هذه اللحظة وقال: إنَّ الشّيخ يَسأل: هل الرّضاعة في السَّنة الأولى أم الثَّانية..؟! وبالطَّبع لا يَخفى عن القَارئ الذَّكي؛ أنَّ الرِّضاعة حَدَثت قَبل أكثر مِن أربعين سَنة، إضافةً إلى أنَّه مَن المَسؤول وَقتذاك؛ عِندَما كَان السَّائِل وزَوجته رَضيعين، في المَهد صَبيين..! فمَا كَان مِن السَّائل إلَّا أن قَال: لا أعلم مَتى حَصل الرّضاع..! عندها حَسم الشّيخ «العبوس» الأمر بإجابة صَاعقة قَائلا: طلّقها..! هكذا بكُلِّ بَساطةٍ وخِفَّة، يَهدم بيت أُسرة آمنة مُستقرّة..! ومِن المُؤكَّد أنَّ السَّائل «سيَفعلها»، الأمر الذي يَجعل أولاده يَعيشون الحَسرة، والضّياع والشّتات..! أمَّا الشّيخ فقد أدَّى إلى قَرارٍ مَكين، وذَهب إلى أسرته، مُتنعِّماً بعلمهِ، وفَضل الله -جَلَّ وعَزّ- عليه، مُتناولاً طَعامه بين أولاده، مُستلقياً بَعد الغذاء، لكي يَتمتَّع بقيلولة صيفيّة هَادئة..! بكُلّ أسف، هذا مَشهد مِن مَشاهد «الفَتَاوي العَابرة للقَارات»، فسَائلٌ بَسيط يَسأل، وطَالب فتيَا مسكين يَستفتي، وخَائِف مِن الإثم يَستفهم.. كُل هؤلاء يَقعون-أحياناً- في شيخ مُفتي، لا يرقب في سَائليه إلّا ولا ذمّة، ولا تَأخذه بهم رَحمة، أو شَفقة أو عَطف..! مَتى يُدرك المُعتدون على الفَتوى؛ بأنَّهم يُوقّعون عن الله في فَتواهم –كَما يَقولون في كُتبهم-..؟! لذا عندما ألَّف الإمام «ابن القيّم» كِتَابه، الذي تَحدَّث فيه عَن الفَتوى، وطَريقتها وأدلّتها، وشروطها ووَاجباتها، عندها اختَار له اسم «إعلان الموقّعين»، وهو -رَحمة الله عليه- يَقصد تَنبيه الموقّعين عَن الله، وهُم المُفتون في كُلِّ زَمانٍ ومَكان..! مَتى يَعلم هَؤلاء المُفتون أنَّ الإمام «مالك» سُئل عن أربعين مَسألة، فلم يَجِب إلَّا عن ثَمانٍ مِنها فَقط..؟! ومِن ثَمَّ قَال أهل العِلْم: (مَن قَال لا أعلم فقَد أفتَى).. وقَالوا أيضاً: (لا أعلم.. نصف العِلْم)..! أستحلفكم بالله.. هل سَمعتم مُفتياً مِن مُفتي الفَضائيّات والمَذاييع، قَال لا أعلم..؟! حَسناً.. مَاذا بَقي..؟! بَقي القَول: إنَّ الفَتاوى الآن لم تَعد آراء تُقال، بل أصبحت ميداناً لتَصفية الحِسَابات، بين هَذا الشّيخ أو ذَاك، ومَع الأسف أنَّ الدِّين، والمُسلم البَسيط؛ هُما الخَاسران الوَحيدان مِن هذه المُبارزة «الحَمْقَاء»..!.