أمس قرأ أحد الزملاء تقريرا يقول إن حصيلة حساب إبراء الذمة الذي مضى على إنشائه في السعودية خمس سنوات، تجاوز 177 مليون ريال، فسألني بخبث: ماذا لو اتخذت مصر خطوة مماثلة، أليست الودائع المتوقعة ستدر دخلا على الميزانية العامة يتجاوز - ربما – دخل قناة السويس أو تحويلات العاملين في الخارج؟! فهمت أنه يقصد كثرة الذين يجب عليهم ابراء ذمتهم، فما أكثر المرتشين في الدولة، والفاسدين في كل قطاع، وسارقي البنوك، وناهبي أراضي الدولة وشركات القطاع العام وغيرهم وغيرهم! وإذا كنت قد حكمت عليه بالخبث من هذا الذي استنتجته، فإنه على أي حال رجل على نياته، فقد ظن أن هؤلاء الذين استباحوا الحرام وملأوا كروشهم من الممكن أن يتوبوا أو أنهم يفكرون أصلا في التوبة لكنهم لا يجدون الوسيلة، فإذا صدر قرار جمهوري بفتح حساب لإبراء الذمة سيسارعون إليه ليتخلصوا من الذنوب الثقيلة! هو بالطبع لا يتصور أن مليارديرات ومنفوخين كثرا في مصر إذا تابوا وأفرغوا جيوبهم في حساب إبراء الذمة سيصبحون على الحديدة، يا مولاي كما خلقتني! طبعا ليس هذا تشجيعا على الفساد وعدم إبراء الذمة، لكن المعنى أن دولة اللصوص التهمت دولة الشرفاء، القانون في إجازة لا يطبق إلا على من صغر شأنهم وهانت قيمتهم! جماعات الفساد المالي هي المهيمنة على الثروة والسلطة. حلقات عنكبوتية مثل جماعات العنف المسلحة، كل حلقة تعرف أنها ليست المستفيد الوحيد، وأن هناك من هو أكثر منها إستفادة بالمال الحرام، وما وضعته في جيبها لا يساوي الفتات! في غيبة القانون لا تصحو الضمائر ولا يتوب اللصوص. وعندما تتولى الأمور سلطة فاسدة فأول ما تفعله أن تعطي للقانون والعدل والشفافية إجازة مدفوعة الأجر.. وكله حرام في حرام. لذلك نجد أن الحكومة في أيامنا هذه تسعى للتوفيق والمواءمات بغض النظر عن القانون. القضاء يحكم بمعاقبة محاميين بالحبس، فيتظاهر المحامون ضد القضاة، وتسعى الحكومة للمواءمة بينهما والصلح الذي سينتهي بالغاء الحكم القضائي. كلامي هنا لا علاقة له بتفاصيل القضية أو براءة المحاميين، لكنه يتعلق بسنة خطيرة ستبدأ من الآن، تعلي العرف فوق الأحكام القضائية، وفي الوقت نفسه تجعل الجميع متشككا في عدالة تلك الأحكام، وتستبدل التكتلات المؤثرة بالدوائر القضائية ودرجات التقاضي.. ومن يدري فقد نصل إلى يوم نحكم فيه على المتهم بالقرعة بمعنى أن نكتب عدة خيارات في مظاريف مغلقة وعليه أن يختار، فإذا كان حظه نحسا فقد يختار السجن مدى الحياة أو حبل عشماوي! ما علينا.. فقد فتح الزميل على نفسه باب جهنم من خواطري السوداوية، فراح يشرح لي طريقة حساب إبراء الذمة ما قد يشرح نفسي ويسرها. يتصدر هذا الحساب الذي يشرف عليه بنك التسليف والإدخار السعودي عبارة تقول "إذا شعرت بأنك أخذت مالا بغير حق وتريد إرجاعه بدون مساعدة، نحن نساعدك". في فبراير 2005 أراد موظف حكومي إعادة مبلغ مالي حصل عليه بدون وجه حق، فتقدم بإلتماس للمقام السامي توج بإصدار مرسوم ملكي بانشاء حساب ملكي باسم "براءة الذمة" ليستقبل إيداعات من يشعر بأن ذمته عالقة ببعض الحقوق العامة ويرغب في التسديد دون أي مساءلة، حيث يتم التعامل مع الإيداعات دون النظر إلى هوية المودع أو حجم الإيداع. قلت له: لنفترض أنه صدر عندنا مرسوم مشابه وخاب ظني فانهمرت الايداعات بالفعل، فكيف سيتعامل يوسف بطرس غالي وزير المالية معها.. لم تجد الدولة صعوبة في الاجهاز على أموال التأمينات الإجتماعية وهي على أي حال أموال مربوطة على أصحابها، فماذا سيكون الحال مع أموال ليس لها صاحب؟!.. ستعاملها الحكومة على أنها حقوقها ردت إليها، فتصبها مرة أخرى في جيوب الفاسدين والمفسدين! صديقي أصيب بالغم من رؤيتي فوجد الأفضل له أن يتفرج على كأس العالم تاركا مصر للحل الإلهي!