د. رقية بنت محمد المحارب - نقلا عن شبكة لها أون لاين طالعنا الشيخ عبد المحسن العبيكان بفتوى شاذة في رضاع الكبير، وقد سبق ذلك بزمن بفتواه الشاذة في جواز فك السحر بالسحر رغم أنه يعد من مدرسة ركزت على نواقض التوحيد واستقصت مظاهر الشرك ورغم أنه مستشار في جهة رسمية تابعة لدولة تعلن تبنيها للمنهج السلفي الرشيد، فماذا يريد الشيخ – هداه الله ووفقه لكل خير- من تبني مثل هذه الفتوى وإظهارها؟ هل هو بيان الحق أم هو جس نبض الشارع ، أم هو المجازفة وعدم المبالاة بعواقب الأمور، أو زلة نسأل الله أن يغفر له. وما الموقف الحق من مثل هذه الآراء الشاذة التي لن تتوقف ، ومن المنتسبين للعلم الشرعي الذين يصرحون بها ؟ . إن المتأمل في كتب الفقه يجد شذوذات لا يعول عليها بل جاء الإجماع على خلافها، وقد لا تكون رأي مجتهد فحسب بل قد تكون نصا نبويا فتجمع الأمة على ترك العمل به فيلزم الجميع ذلك ولا يصح أن يظهر بعد ذاك الاجماع الحميد من يقرأ كتب الحديث ويتمسك بنص واحد غريب أو شاذ ويقول به ضاربا بالباقي عرض الحائط ، وقد قال الترمذي في آخر كتابه:" ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة" وهذا نهج العلماء من قبل فمن العبث أن يجتمع الناس على دليل ويفشو فيهم ويتوارثونه بدلائله من النصوص الشرعية، ثم يأتي رأي شاذ على حين ضعف من الناس وهوى, فيكون لهم في ذلك رخصة يعذرون بها، إن المجازفة بتجويز رضاع الكبير يصادم النصوص الشرعية الثابتة في أن الرضاعة من المجاعة وأن الرضاعة المعتبرة ما أنشز العظم وأنبت اللحم، قال تعالى : {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أراد فصالاً عن تراض منهما وتشاورٍ فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير}البقرة:233 أقول المفسرين: يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: إنها إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك. وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون حولين فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما فلا يحرم (تفسير ابن كثير 1/290،ط دار المعرفة – بيروت) قال الترمذي (باب ما جاء في الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين) عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الطعام" والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين الكاملين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا ومعنى قوله:"إلا ما كان في الثدي" أي في مجال الرضاعة قبل الحولين كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم:"وإن إبراهيم ابني وإنه مات وإن له لظئرين تكملان الرضاعة في الجنة" وفي رواية البخاري:"إن له مرضعاً في الجنة"( صحيح مسلم 4/1808، وفتح الباري 3/244) وقال عليه السلام ذلك لأن ابنه إبراهيم مات وله سنة وعشرة أشهر فقال: "إن له مرضعاً "يعني تكمل رضاعته. والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين يروى عن على وابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي هريرة وابن عمر وابن سلمة وسعيد بن المسيب وعطاء والجمهور. ويقول القرطبي قوله تعالى{حولين} أي سنتين كاملتين قيد بالكمال لأن القائل قد يقول: أقمت عند فلان حولين، وهو يريد حولاً وبعض حول آخر،و استنبط مالك رحمة الله تعالى عليه ومن تابعه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة. أما من شذ بالقول برضاعة الكبير فقد استدل بما روت عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ كَانَ مَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَأَهْلِهِ فِي بَيْتِهِمْ فَأَتَتْ تَعْنِي ابْنَةَ سُهَيْلٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إِنَّ سَالِمًا قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعَقَلَ مَا عَقَلُوا ، وَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا ، وَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ ، وَيَذْهَبْ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ ، فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ : إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ . رواه مسلم في صحيحه (1453) وبه قال ابن حزم وتبعه الألباني ولعلهم غاب عنهم كونه خاصا لها فلم يفعله سواهم ولم يعهد ذلك فيمن أتى من القرون رغم حاجتهم له فهل فهم أولئك المخالفون ما لم تفهمه الأمة جمعاء. فقد تلقى الحديث بالقبول الجمهور من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من علماء المسلمين إلى يومنا هذا . والرواة إذ رووا حديث سالم تلقوه بالقبول على أنه واقعة عين بسالم لا تتعداه إلى غيره، ولا تصلح للاحتجاج بها ، ويدل على ذلك ما جاء في بعض الروايات عند مسلم عن ابن أبي مليكة أنه سمع هذا الحديث من القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي الله عنها قال ابن أبي مليكة : فَمَكَثْتُ سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا لَا أُحَدِّثُ بِهِ وَهِبْتُهُ ، ثُمَّ لَقِيتُ الْقَاسِمَ فَقُلْتُ لَهُ : لَقَدْ حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا مَا حَدَّثْتُهُ بَعْدُ ، قَالَ : فَمَا هُوَ ؟ فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ : فَحَدِّثْهُ عَنِّي أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِيهِ . وفي رواية النسائي ، فقال القاسم : حدث به ولا تهابه [ أخرجه النسائي (3322) ] قال الحافظ ابن عبد البر: " هذا يدل على أنه حديث ترك قديما ولم يعمل به ، ولا تلقاه الجمهور بالقبول على عمومه ، بل تلقوه على أنه خصوص " . [ انظر : شرح الزرقاني على الموطأ 3/292 ، وقال الحافظ الدارمي عقب ذكره الحديث في سننه : " هذا لسالم خاصة " ] وبذلك صرحت بعض الروايات ، ففي صحيح مسلم عن أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَقُولُ : أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ : وَاللَّهِ مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً ، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ وَلَا رَائِينَا . يعنين بذلك عدم استحلال التحريم برضاعة الكبير . ومن المؤسف أن يتلقى السفهاء هذه الفتوى بالسخرية لدرجة أسقطوا فيها هيبة الشيخ وهو عالم له مكانه وفضله وإن كنت أرى أن ذلك منه زلة فلا يسوغ التندر بالفتوى وصاحبها لما في ذلك من إسقاط هيبة العلماء وأحسب أن الشيخ العبيكان له أن يختار من الآراء ما يظهر له حسن وجهه وقوة دلالته؛ ولكن ليس له أن يخرق به إجماع الناس على أمر فيشوش عليهم لاسيما إذا كان فيهم من أهل الأهواء من لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة فيعرض نفسه لما نترفع به عنه وهذا من السياسة الشرعية المرعية فلعله يراجع نفسه ويتدارك ذلك فيما يأتي ، وأحسب أن العلم ليس إلماما بالنصوص وإنما هو إدراك للمقاصد وفهم للواقع مع الإحاطة بالنصوص والجمع بينها وإعمالها دون تضارب أو تضاد ، والله أعلم وهو سبحانه من وراء القصد