في مصعد الفندق في مدينة الدوحة، سألت العامل الذي كان يساعدني في حمل أمتعتي: من أي البلاد أنت؟ أجاب: أنا من نيجيريا، وأعمل في الدوحة منذ فترة، ثم بادرني بالسؤال: وأنت من أين؟ قلت له من الإمارات، قال: كنت أظنك من الكويت، أو البحرين، فأنتم يصعب التفريق بينكم، بخاصة أن ملابسكم متشابهة! وأمام موظفة المطعم في الفندق الذي نزلت فيه في البحرين، وقفت لأوقَّع على فاتورة الغداء، فقالت العاملة الفلبينية: عفواً.. ألم توقع على الفاتورة قبل قليل؟ قلت لها: لا، قالت: اسمح لي، فقد كنت أظن أنك قد وقّعت، فأنتم تتشابهون في أشكالكم. ابتسمت وقلت في نفسي: إذا كنا نحن متشابهين في أشكالنا، فما نقول عن الصينيين؟ تذكرت هذين الموقفين وأنا أقرأ تعليقا وصلني من صديق عزيز، وهو أستاذ جامعي متميز، تعليقا على مقالي الذي كتبته الأسبوع الماضي بعنوان «هل نحن شعوب متسامحة؟»، فكتب يقول: «سؤال يخطر ببالي دائما، وهو لماذا نصف نحن أبناء الخليج أنفسنا بكلمة (شعوب)، هل لهذا أساس علمي أم هو من الأخطاء الشائعة؟ أعتقد أننا نتصف بسمات مشتركة تجعل صفة شعب أقرب من كلمة شعوب». ولعل السؤال الذي يمكن طرحه بعد ذلك عندما ينظر الآخرون إلينا على أننا متشابهون في أشكالنا، بل وفي ملابسنا؟ وننظر إلى أنفسنا على أننا شعوب مختلفة. الواقع أن هذا السؤال المشروع لم نناقشه علميا، ولم يتم بحثه من قِبل متخصصين، بل تمّ الترويج له إعلاميا حتى غدا مصطلحا إعلاميا، أكثر منه مصطلحا علميا أو واقعيا. فمنطقة الخليج العربي عبر التاريخ تشكل مكونا اجتماعيا واحدا، بل يمتد هذا المكون ليلتقي مع باقي العرب في كثير من الصفات الدينية والاجتماعية والثقافية. ولذا فالحديث عن «شعوب»، لا يصلح أن يطلق على من يسكن في هذه المنطقة، إذ إن صفات الشعب الواحد، هي التي تجدها في سكان هذه المنطقة. وقد ساعد على هذا الوصف أن المنطقة دخلت خلال السنوات الماضية في مشروع سياسي واجتماعي كبير تمثل في «مجلس التعاون الخليجي». وعلى الرغم من أن المسيرة الرسمية للمجلس لم تحظ بالرضا من أبناء المنطقة، إلا أنها كانت دافعا للانطلاق في تواصل مباشر بينهم، فشبكة العلاقات الاجتماعية والمهنية والمتخصصة تقدمت خلال السنوات الأخيرة، إذ أتاحت بعض الأنشطة والبرامج المشتركة للمتخصصين أن يلتقوا ويتعارفوا فيما بينهم، فنشأ ما يمكن تسميته بالامتداد الأفقي للمجتمع الخليجي. فقد أصبحت علاقات الأطباء مثلا في المنطقة أكبر مما كانت عليه في السنوات السابقة. فالمؤتمرات واللقاءات والتواصل المباشر بين الأطباء، مكنهم من تكوين «شريحة» ممتدة في دول المنطقة كافة، ومثل ذلك تجده في كل مجال كأساتذة الجامعات، والمهندسين، والإعلاميين وغيرهم. وكان ميدان التجارة والأعمال من أكثر الميادين تواصلا، إذ استفاد من القوانين المحلية، والقوانين والاتفاقيات الصادرة من مجلس التعاون الخليجي في الامتداد عبر المنطقة. فهناك اليوم شركات وبنوك ومؤسسات تجارية تنتشر في أكثر من دولة خليجية. ولذا تجد كثيرا من أبناء الخليج لا يخلو هاتفه أو بريده الإلكتروني من رقم أو عنوان لقريب أو صديق أو زميل عمل في بلد خليجي آخر. لكن الحديث عن شعب واحد يحتاج إلى خطوات متقدمة للعمل على زيادة الترابط بين أبناء هذا الشعب. ولعل في مقدمة ذلك، تشجيع الزواج بين أبناء الخليج حتى ينشأ جيل يرتبط «نسبا»، بحيث يصبح للإنسان خال في بلد، وعم في بلد آخر، وأقارب في بلد ثالث. إن مثل هذه الترابط العائلي سيقوي من الشعور بالانتماء «العائلي» لأبناء هذا الشعب، ويجعل من الصعب التفريق بين أبنائه. ولعل تجربة الإمارات تشكل أنموذجا في ذلك. فخلال أربعين عاما من الاتحاد، تواصل أبناء الإمارات من خلال «الزواج»، بحيث نشأ جيل لا ينتمي إلى إمارة محددة، وإنما تمتد جذوره العائلية إلى أكثر من إمارة، وأصبح من الصعب أن يتحدث أحد عن تفريق بين أبناء الدولة، بل زاد ذلك من دعائم الارتباط بين مكونات الاتحاد. ولعل من الصور الأخرى التي تزيد من التواصل، فتح باب التعليم العالي لأبناء المنطقة في جميع الدول، بحيث تتم معاملة الجميع وفق الشروط العلمية، من دون النظر إلى الدولة التي ينتمي إليها. ويمكن حل مشكلة تمويل التعليم من خلال تمويل تعليم الطالب مباشرة إلى الجامعة التي قُبل فيها، ويمكن من خلال هذه الطريقة أن ينتقل أبناء الخليج العربي ليدرسوا في غير دولهم، فينشأ بينهم تعارف وعلاقات حتى إذا تولوا مسؤوليات في مستقبلهم، مكنهم ذلك من العمل بروح الفريق الواحد، وليس الانتماء إلى دولة محددة. ولعل من تمام ذلك «تقريب» مناهج التعليم في المنطقة، بحيث يتلقى الطلاب والطالبات أهدافا تعليمية متقاربة، إن لم تكن متطابقة، بل ربما أمكن توحيد مناهج بعض المواد الدراسية كالرياضيات والعلوم، وهي مواد لا يمكن الاختلاف عليها، ولقد كان لمكتب التربية العربي لدول الخليج تجربة متميزة في هذه المجال، لكن التجربة تراجعت لأسباب لا علاقة لها بالمكتب! إن هناك كثيرا من الأفكار والآراء التي يمكن أن تحقق فكرة الشعب الواحد، لكن يبقى بعد ذلك أن يقتنع صانعو القرار بأننا شعب واحد فعلا، ولسنا شعوبا متعددة.