بعد انقضاء عيد الجنادرية الخامس والعشرين بعدد كبير من الزوار قدر بالملايين وهو أعلى رقم يصل إليه عدد الزوار للمهرجان منذ البدء به قبل ربع قرن، يتساءل المتابع عن العبر والفوائد المستقاة من إقامة مثل هذا المهرجان. مالذي يحدث مع هذه الفعالية الضخمة؟ ثم نتساءل بعد الإجابة: هل يكفي تنظيم مهرجان واحد كهذا في السنة لمدينة بحجم الرياض؟ بل هل هذه الفعالية السنوية التي ترتقي إلى هذا المستوى من الإعداد والتنظيم وحدها كافية لبلد بحجم المملكة التي يقطنها أكثر من 25 مليون مواطن ومقيم؟ الحقيقة التي يجب أن نتذكرها أن إقامة المهرجانات الضخمة ليس مجرد أمر ترفيهي أو تثقيفي كما يظن البعض، رغم أهمية هذه الأبعاد، بل إن له أبعادا اقتصادية أخرى وهامة سأحاول في هذه العجالة إلقاء الضوء عليها. أبان الأسبوع الأول من المهرجان أن نسبة الإشغال في فنادق الرياض تأثرت ارتفاعاً حتى تعذر وجود غرفة أو جناح في الفنادق المعروفة وتأثرت حركة الحجز على الطائرات من وإلى الرياض ارتفاعاً وازداد عدد رواد المطاعم في المدينة وزاد عدد مستخدمي سيارات الأجرة وتأجير السيارات. ليس هذا فقط بل إن هناك الكثير من المؤسسات والشركات التي تعنى بالتنظيم والتجهيز استفادت هي الأخرى. هناك متخصصون في إعداد خشبات المسرح والعروض بما تحتاجه من تكنولوجيا صوت وعرض. هناك شركات أمنية اضطرت إلى توظيف عدد جديد من موظفي الأمن السعوديين لمراقبة المهرجان وحفظ الأمن به. ولا ننسى شركات الصيانة للحدائق وشركات التنظيف. الواقع أنها منظومة متكاملة من المنافع التي عادت على العشرات من المؤسسات والآلاف من المواطنين بالخير من خلال زيادة المداخيل والعقود. أخيراً هناك حركة البيع داخل أروقة المهرجان بواسطة الجهات العارضة للأنشطة. فقد تم بيع الهدايا التذكارية والمخطوطات وبعض أنواع المأكولات الشعبية على الزوار وبأحجام مالية مناسبة ومربحة تمت في أجواء جميلة ومنظمة وآمنة. المهرجانات الضخمة ليست وحدها المطلوبة. تدفق ملايين الزوار على مهرجان الجنادرية يدل دلالة واضحة على أننا فقراء جداً في نواحي الترفيه. لا يمكن القبول أن كل الذين تدفقوا على الجنادرية كانوا من الباحثين عن الثقافة والتراث. الكثيرون خرجوا فقط للرغبة في الخروج من ضيق البيت أو الشارع ومن قلة الخيارات الأخرى المتاحة بجانب التسوق. ماذا لو أن الرياض تحتوي على حديقة عامة "Theme Park" بمستوى "ديزني لاند" مثلاً؟ مثل هذا المشروع العملاق ومن خلال معرفتي بأنشطتهم، يقيم العديد من الفعاليات داخل السنة يوازي الواحد منها مهرجان الجنادرية بما يكفل تدفق الزوار ليس فقط من الداخل بل من خارج المملكة وعلى مدار العام. كما أن من أهم العوامل التي ساهمت في تدفق الزوار لمهرجان هذا العام بجانب حسن التنظيم، كان السماح للعائلات بالدخول بدون الحاجة إلى فصل الأب والأبناء عن بقية العائلة. دخول كامل أفراد الأسرة شجع الكثيرين على زيارة المهرجان والتمتع بمحتوياته. هنا لابد من تقديم الشكر للقائمين على التنظيم من جهة ولهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ارتقاء تعامل أفرادها مع الزائرين. حسب علمي لم تحدث أية مشاكل تتعلق بالتحرشات أو المضايقات كما كنا نسمع في السابق عندما كان الفصل بين الجنسين بسبب الشكوك قائماً. هنا يتطلب الأمر بعض التأمل حقيقة واستخلاص العبر. سأبقى قليلاً حول هذه النقطة تحديداً وأوضح أن أهم العوامل التي تقف عائقاً أمام الاستثمار في المشاريع الترفيهية الكبرى كتلك التي أشرت إليها أعلاه هي خوف المستثمرين من قرارات منع الدخول التي قد تأتي بعد تشغيل المركز. فلو بعثنا رسائل الاطمئنان إلى رؤوس الأموال بأن الدولة ستقف موقف المشجع الداعم لمثل هذه الاستثمارات لحدث نمو كبير في بناء القطاع الترفيهي في المملكة بما قد يساعد ليس فقط في إبقاء الناس داخل الوطن في الإجازات بل في استقطاب زائرين من الخارج وبالتالي إحداث الفرص الوظيفية الجديدة وانتعاش الاقتصاد والخدمات المساندة بشكل عام. هكذا يبقى الاقتصاد والحركة الاقتصادية في خاصرة الموضوع إذ يتفق الكثير من المتخصصين الذين أتحدث معهم أن السبب الأول في تنامي عدد العاطلين والعاطلات في المملكة هو النقص الواضح في فعاليات الاقتصاد الداخلي في قطاع الخدمات والترفيه. وقد أشرت في مقال سابق إلى أن هذه القطاعات تعتبر المحرك الرئيس في خلق فرص العمل كون النجاح بها يعتمد على قدرات ومهارات وأعداد العاملين بخلاف بعض القطاعات الأخرى كالصناعة والزراعة على سبيل المثال. لو نجحنا في تهيئة الأجواء التي تساعد وتشجع المستثمر على تشييد المشاريع الكبرى في الرياض وغيرها لتغير كل شيء في هذه المدن بدءا من الحركة في المطارات وانتهاء بكافة القطاعات الخدمية في تلك المدن. لو فعلنا ذلك لأقبل المستثمرون على بناء الفنادق الإضافية وزاد عدد وكالات السفر وتحركت المطارات وارتفع عدد الخدمات المساندة بشكل عام. وسأذكر الجميع عندئذ بالعودة إلى معدلات البطالة ومعاينتها للتأكد من هبوط المستويات بشكل ملحوظ. أليست هذه الحقائق كافية للبدء في إعادة صياغة دور الدولة بجميع مرافقها ومؤسساتها وتحويل هذا الدور إلى دور بناء ومشجع قادر على تحويل الاقتصاد في النهاية إلى اقتصاد حيوي متطور يولد فرص العمل بالآلاف؟ الجواب بكل تأكيد نعم. الدولة في النهاية تبحث عن فرص العمل الكافية لتوظيف الأبناء والبنات وتعول على القطاع الخاص أن يأخذ زمام المبادرة تلو المبادرة لتحقيق هذه الأهداف. إذاً من يبدأ قبل الآخر؟ الدولة في دعوة مباشرة للمستثمرين وطمأنتهم أم المستثمرون في تقديم الطلبات والضمانات؟ الخيار الذي لا نريده هو الاستمرار في انتظار الحركة والنشاط مرة في السنة لمدة أسبوعين فقط كما هي الحال اليوم.