حين تسمع بعض الأسئلة الموجهة لأصحاب الفضيلة المشايخ والمفتين عبر برامج الإذاعة ومواقع الإنترنت، فإنك لا تملك إلا أن تستحضر قصة الإمام الأعظم أبي حنيفة رحمه الله مع السائل الذي سأله سؤالاً سخيفاً: إن لم تغرب الشمس حتى منتصف الليل، فمتى يفطر الصائم؟ وأن تتذكر الرد المشهور الذي غدا مثلاً يضرب: آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه. هذه القصة سمعناها صغاراً وكانت العبرة آنذاك ألا نغتر بالمظهر لأن المخبر قد يكون فاضحاً. لكن ثمة عبرة أخرى ينبغي أن نأخذها من إمام المذهب الأكثر انتشاراً ومن أحد أعظم شخصيات سلفنا الصالح، ألا وهي: أنه يحق للمفتي أن يوضح للسائل مدى سخف سؤاله، وأن يمتنع حتى عن الإجابة. هذا الامتناع وهذه المصارحة بعبثية الطرح لا يراد منها طبعاً جرح مشاعر المستفتين ولا كتم العلم عنهم، لكنها يراد منها قبلاً حفظ هيبة العلم الشرعي وأهله، وهيبة مؤسسة الفتوى من الابتذال، وحض الناس على التفكير قبل طرح السؤال وعدم العبث بأوقات العلماء ومريديهم. ولعله من المدهش أن هذا المبدأ لم يعد قائماً اليوم بالرغم من انتشار العلم وتوافر سبل نقله. بل إن سهولة التواصل مع العالم والمفتي قد فتحت الباب فيما يبدو لأشكال من السخف في الاستفتاء. إذا أخذنا جولة سريعة على بعض صنوف الفتاوى المعاصرة فسنضحك كثيراً. بين يدي فتوى لسائل يسأل عن حكم رد السلام على الببغاء التي تردد عبارة "السلام عليكم".. أي نوع من الأسئلة هو هذا؟ والشيخ الذي تكرم بالرد قد فصّل فيه فعرّف الببغاء أولاً ثم أعطى رأياً شرعياً في الموضوع. ولا يهمنا ما هو الرد.. المهم أن السؤال فيه انتقاص لقيمة العلم الشرعي وقلة احترام للمؤسسة العلمية ولمقاصد الشريعة السمحة. هكذا بدون مبالغة.. وإن لم يكن السائل يقصد هذا كله. هذا السؤال فيه "استهبال" أكيد، والإجابة عليه تؤكد هذه القيمة الانتقاصية ناهيك عن أن مثل هذه الفتاوى تبعث على سخرية الآخرين منا واستهزائهم بعقلياتنا وبرموز مؤسساتنا الشرعية. لنتأمل في فتاوى أخرى موجودة وموثقة بإجابات مشايخها: ما حكم أن تكتب المرأة "هههههه" في منتديات الإنترنت؟! ما حكم أن تربط المرأة حزام الأمان بالسيارة إذا كان سيبرز صدرها؟! هذه أسئلة مستفزة لأنها ليست من ورائها فائدة حقيقية. وهي مؤشرات إما على عقليات متواضعة، أو على ترف فلسفي، أو هوس مَرَضي بالتحليل والتحريم. بل إنك حين تطالع بعض الفتاوى فإنك تتمنى أن يعاقب سائلوها. مثل ذلك الأخ المواطن الذي توجه للشيخ بسؤال عن حكم استقدام السائقين، وحكم أن تركب النساء معهم السيارة؟ وهذا سؤال مدهش في "عباطته" وفي إشكاليته! لأن هناك حوالي عشرة ملايين مواطن سعودي كلهم عندهم سائقون، وكلهم تركب نساؤهم وبناتهم السيارات مع السائقين المستقدمين لهذا الغرض عبر ثلاثة عقود بفيز نظامية صادرة من الدولة ويعملون وفق إقامات ورخص قيادة رسمية نظامية. ماذا يريد ذلك السائل من سؤاله؟ ولو أن الشيخ أجاب عليه بأن استقدام السائق (حرام) مثلاً.. فماذا سيستفيد الأخ السائل من التصادم مع البلد بأسرها؟ وأين كان سيذهب بهذه الفتوى العجيبة التي جرها سؤاله؟! هناك استسهال عام وتهاون بسبب سهولة التواصل مع العلماء الشرعيين، وتكاد تشعر أن البعض يستفتي فقط ل "يدردش" مع الشيخ أو ليزيد من ثقافته الشرعية العامة.. فيسأل في المختلفات وفي المستحيلات ويختلق المسائل ليقف على رأي الشرع النظري منها. ولعل أصحاب الفضيلة المفتين لا يكتفون بالرد المباشر على مثل هذه الأسئلة. قد يكون من المفيد أن يُلفت نظر السائل إلى أن سؤاله عجيب وغير واقعي مثلاً. أو أنه يسأل عن موقف مستحيل.. أو أنه من الأولى أن يركز على عباداته الأهم لأن سؤاله فلسفي. لا بأس من أن يُشعر المفتي سائله بأنه يضيع وقته أو يستخف به وبالقيمة الشرعية التي يمثلها. هكذا سيخف كثيراً تيار الأسئلة السخيفة التي تُضحك علينا المرجفين والمغرضين. ولنا في أبي حنيفة وسواه من أئمة السلف قدوة في ذلك. رُوي عن الإمام الشعبي رحمه الله أن رجلاً سأله عن كيفية مسح اللحية، فأجابه: خللها بأصابعك.. فعاد وسأله: ولكن أخاف ألا تبتل! فقال الشعبي: انقعها من أول الليل!