جريمة اغتيال القيادي في حركة حماس محمود المبحوح على يد الموساد الإسرائيلي في دبي، وما أعقب ذلك من جهد متميز لشرطة دبي التي استطاعت أن تكشف ملابسات الجريمة خلال عشرة أيام، وضعت العالم أمام حالة جديدة لم يشهدها من قبل. فقد تعوّد أن تسجل جرائم الاغتيال السياسي وبخاصة التي تتم على يد الموساد ضد مجهول، لكن شرطة دبي فضحت الموساد حين قدمت بالصورة وبالبيانات الواضحة حقيقة هذه الجريمة ومن قام بها ومن يقف خلفها، لكن أهم ما كشفته هذه الجريمة أن الإسرائيليين مازالوا يعيشون بعقلية الستينيات أو السبعينيات، لا في استخدام الوسائل فقط، بل في التفكير. فهذه الجريمة كشفت زيف دعاوى العيش بسلام مع شعوب المنطقة، فقد روّجت إسرائيل منذ ما يقرب من عقدين من الزمان أنها ترغب في إحلال السلام في المنطقة، وقد «نظَّر» لذلك شمعون بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» الذي طرح فيه فكرة دمج إسرائيل في محيطها العربي، من خلال تكتل جديد في المنطقة. لكن يبدو أن الشرق الأوسط الجديد الذي يطمح الإسرائيليون إلى تكوينه هو ذلك الشرق الذي يصبح ساحة مفتوحة أمامهم ليمرروا مشاريعهم العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية، وإلا فبماذا يمكن تفسير اختيار دبي لتكون ساحة لارتكاب جريمتهم؟ فقد كانوا خلال السنوات الماضية يحاولون اختراق منطقة الخليج، تارة تحت لافتة المكاتب التجارية، ومرة بمشاركة في مؤتمر دولي، وأخرى من خلال مسابقة رياضية. وقد نجحوا في استغلال السبل كافة لخدمة أهدافهم، بما فيها استخدام علاقاتهم الأمنية والاستخباراتية مع الدول الحليفة لهم، فلم يترددوا في استغلال تلك العلاقة واستخدام جوازات سفر لموطني تلك الدول، ما كشف عن عمق التعاون بينها وبين إسرائيل. فإذا كانت إسرائيل «راغبة» في التواصل مع دول المنطقة كما تزعم فلماذا لم تحترم سيادتها، ولماذا «تستخف» بقدراتها الأمنية؟ بل لماذا لم تحترم التزاماتها الدولية وتعهداتها السابقة لحلفائها الغربيين، وبخاصة بريطانيا، بعدم استخدام جوازات سفر باسم مواطنيها في تنفيذ جرائمها. إن كل هذه الأسئلة تشير إلى أن إسرائيل، لا يمكن أن تكون جزءاً من المنطقة، بل لا تريد الاستقرار والأمن لدوله وشعوبه، وعلى «الواهمين» أن يعيدوا النظر في مواقفهم.. فالذين يرون إمكانية العيش مع الإسرائيليين، أو إقامة سلام معهم، إنما يعيشون في وهم. فإسرائيل لا تؤمن إلا بمصالحها ورغبتها في التفوق والهيمنة على دول المنطقة، وفي سبيل ذلك فإنها لن تتردد في تنفيذ أي شيء، مهما كانت ردة فعل العالم أجمع، وهذا ما بدا واضحا في ردود فعل الدول الغربية، التي لم تتجاوز استدعاء السفير الإسرائيلي لديها، وطلب توضيحات، بل صرح وزير خارجية إحدى هذه الدول بقوله «إذا ثبت تورط إسرائيل باستخدام جوازات سفر لمواطنينا، فإن ذلك لا ينم عن تصرف دولة صديقة»!.. وكأن المسألة مجرد حادث مروري، أو مشاجرة في مطعم!! لا باعتبار هذا السلوك جريمة باختراق سيادة دولة، واستغلالا لعلاقات بين الدول قد تؤدي إلى تعريض حياة مواطنيهم للخطر ، بل لعل من الغريب أن لا نسمع أي موقف من الولاياتالمتحدة الأميركية، وهي التي لا تترك مناسبة في أي بقعة من العالم إلا وتصدر البيانات بشأنها، ولا يتوقع أحد منها أن تصدر بيانا تدين قتل المبحوح، لكن ماذا عن اختراق سيادة دولة صديقة، واستخدام جوازات سفر لدول صديقة وحليفة لها، ألا يستحق ذلك بيانا، أو تنديدا بهذه الجريمة؟ لكن يبدوا أن الدول الغربية لا تستطيع، أو لا ترغب، في وقف جماح إسرائيل عن ارتكاب الجرائم، حتى ولو كان ذلك مصدر خطر عليهم، فكما جاء في تقرير لوكالة رويترز أن «خارج منطقة الشرق الأوسط كان استخدام القتلة لجوازات سفر مزورة لمواطنين حقيقيين من بريطانيا وايرلندا وأستراليا وفرنسا، هو الذي سبب أغلبية الغضب. ويشتبه بعض المحللين في أن حكومات هذه الدول ربما تأمر بخفض حجم التعاون المخابراتي مع إسرائيل لبضعة أشهر، كنوع من الانتقام، وربما لا تشعر إسرائيل بقلق كبير من هذه الخطوة، لكن من المرجح أن توقف استخدام جوازات السفر من هذه الدول لبضع سنوات لتهدئة المخاوف. وفي حين أن الحكومات، ربما تبدي ذعرا على الملأ من استخدام جوازات سفر مزورة، فإنها تعلم أن هذا التكتيك من حقائق الحياة في عالم الجاسوسية»، فإذا كان الأمر كذلك، فهل نتوقع أن يتغير سلوك إسرائيل في المستقبل. وإذا كانت شرطة دبي قد نجحت في كشف جريمة الإسرائيليين، فما الذي يمنعهم من تكرار جريمتهم في موقع آخر من المنطقة، بل ما الذي يمنعهم من ارتكاب جرائم أخرى، أو إثارة الاضطرابات الأمنية لحمل دول المنطقة على تغيير مواقفها، أو اتخاذ مواقف تصب في صالحها أو صالح حلفائها، وبخاصة إذا دخلت المنطقة في «مشروع» حرب تشنها إسرائيل أو أميركا على إيران. فهل يمكن لأحد أن لا يتوقع عبث إسرائيل بأمن المنطقة؟ إن الموقف يتطلب عملا مشتركا وتنسيقا بين دول الخليج والدول العربية عامة في مواجهة هذا الإرهاب المنظم. كما يجب أن يتوقف الداعون إلى التواصل وفتح القنوات مع الإسرائيليين، فإذا كان هذا شأنهم قبل أن يقيموا علاقات مع الدول، فماذا يمكن أن يكون سلوكهم إذا فتحت لهم الأبواب و المنافذ؟ وإذا لم يتورعوا عن «توريط» حلفائهم، فكيف سيكون الأمر مع غيرهم؟ لقد استغل الإسرائيليون علاقاتهم بدول غربية حليفة لهم، واستخدموا التسهيلات التي تقدمها دول الخليج، وبخاصة دخولهم دول المنطقة من دون تأشيرات.. ولذا فمن المناسب إعادة النظر في هذه التسهيلات، حتى لا يتكرر ما حدث مرة أخرى، وبخاصة أن هذه الدول لا تعامل دول الخليج بالمثل، فهي تفرض عليهم التأشيرات لدخول أراضيها، وربما جعلتهم ينتظرون أياما للحصول عليها. إن منطقة الخليج لن تتراجع عن انفتاحها وعلاقاتها مع دول العالم، ولن تضحي بما أنجزته من تنمية، بسبب تهديد مارسته مجموعة إجرامية، وهي تملك من الإمكانات ما يمكنها من المحافظة على منجزاتها، وعلى الآخرين أن يعلموا أن الخليج ليس ساحة مناسبة لتصفية حساباتهم أو تنفيذ جرائمهم!