عرضت قناة غربية ناطقة بالعربية تمتاز بالعصرنة والرشاقة، منذ فترة قريبة تقريراً مصوراً عن غياب الرومانسية في أوروبا بشكل عام، وفي ذلك البلد الغربي الذي تبث منه القناة بصفة خاصة. سبحان الله، أوروبا بكل ما تتمتع به من حريات وسلوكيات وثقافات وفنون وآداب ومسارح وسينمات وغيرها من أشكال المتع التي لا حدود لها، بل وكل ما يمكن تخيله أو تصديقه من استحقاقات التحرر الكامل من ثقافات العيب والحرام والرجعية، والانفتاح على كل الفضاءات الممكنة التي تُتيح لمجتمعاتها التمتع بمباهج الحياة دون التوقف ولو قليلاً عند نوعية وشرعية تلك المباهج. أوروبا أرض الرومانسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أو هكذا نظن نحن العرب المبهورين بهذه القارة العجوز التي قطعت شوطاً طويلاً جداً للوصول إلى التحرر المطلق من كل شيء، وفي كل شيء، هكذا كنا نظن، ولكن يبدو أن بعض الظن إثم، فأوروبا مسرح شكسبير وسارتر وموليير تُعاني من الجفاف العاطفي والرومانسي والذي قد يؤثر وبشكل كبير كما جاء في ذلك التقرير الخطير على وجهها الحضاري والإنساني. إذا كان هذا هو حال أوروبا، فماذا عساه أن يكون حالنا نحن العرب، وحتى أبتعد قليلاً عن ثقافة التعميم التي تُسيطر عادة على الفكر والمزاج العربي، سأركز قدر الإمكان في تناولي لهذه الظاهرة الخطيرة غياب الرومانسية وذلك ضمن الدائرة المحلية، وأطرح هذا السؤال المثير: هل يفتقد المجتمع السعودي للرومانسية؟ لن أدخل في متاهة التعريفات والمجالات والمحددات لماهية الرومانسية، ولكنني سأكتفي بتعريف بسيط وواضح لمفهوم الرومانسية أراه مناسباً ويفي بالغرض الذي أنشده من خلال هذا المقال. أقصد بالرومانسية الغائبة عن المجتمع السعودي تلك الحالة العاطفية الممتلئة بالمشاعر الرقيقة والأحاسيس الفياضة تجاه الآخر، ولا ينحصر الآخر هنا بالزوجة أو الحبيبة، والأمر كذلك بالنسبة للحبيب أو الزوج، ولكن الآخر هنا يشمل المظاهر الرومانسية الراقية التي يفترض أن يتحلى بها الإنسان تجاه الطبيعة والجمال والموسيقى والمكان والذكريات والشعر والقصص وغيرها من التفاصيل الجميلة في هذا الكون البديع. للأسف الشديد، لا يوجد في أبجدياتنا وسلوكياتنا وقواميسنا إلا النزر اليسير من مفردات الحب والعاطفة والرومانسية، والمتتبع الراصد لغياب مثل هذه الثقافات والطباع الجميلة يُصاب بالدهشة والحزن. لقد اكتسبنا من الصحراء خشونتها ووعورتها، ولم نلتفت أبداً لنقائها وطهرها، فبدت طباعنا وأمزجتنا كما لو كانت صخورا صماء تقطر فظاظة وغلظة وخالية من الحب والعاطفة. قد يكون ذلك تشخيصا مبسطا للحالة المزرية التي وصل إليها المجتمع السعودي جراء استفحال هذا المرض الخطير غياب الرومانسية في معظم تفاصيله الدقيقة والكبيرة. وقبل البدء بمراحل العلاج، لابد من كشف الأسباب التي أدت إلى تفشي مثل هذه الظاهرة الخطيرة. الأسباب كثيرة ولكنني سأذكر سببين اثنين أظنهما الأهم والأكثر شيوعاً. أولهما ناتج عن الطرق التربوية الخاطئة التي تُسيطر على الذهنية العربية التي ترى أنه من العيب والرعونة والخطأ غرس مثل هذه المفاهيم والثقافات والسلوكيات في النشء، بل على العكس تماماً حيث يتم التركيز على بعض المظاهر المضادة كالرجولة المبكرة والخشونة الزائدة والقوة المفرطة باعتبارها أي تلك المظاهر الأنسب والأفضل لذلك النشء الذي تنتظره حياة صعبة وقاسية تحتاج إلى القسوة وليس للرومانسية! أما السبب الثاني فناتج عن الفهم الخاطئ لحقيقة الدين الإسلامي الذي يحث على الحب والعاطفة وتبادل المشاعر والأحاسيس وفق ضوابط وآليات غاية في التسامح والفهم المدرك لحاجات الإنسان العاطفية. وهنا أتساءل مجرد تساؤل فقط عن الهجمة المحمومة والمنكرة بفتح أو بكسر الكاف لا فرق على كل مظاهر الاحتفال ببعض الأعياد والمناسبات الجميلة التي تفتقدها المجتمعات العربية، وخاصة المجتمع السعودي الذي يحتاج لها أكثر من غيره. ألم "نسعود" الكثير من السلوكيات والثقافات المستوردة من خارج الأسوار، فلماذا لا نفعل الشيء نفسه بتلك المناسبات الإنسانية والحضارية كيوم الزواج والميلاد والأم والطفل وغيرها من المفردات الجميلة التي تُضفي على المجتمعات المتحضرة جواً من الرقي والرومانسية. نعم هناك بعض المحاذير الدينية التي لا يُريد أحد تجاوزها، ولكن ألا توجد مساحات وتباينات وأصوات واجتهادات غير ما هو مطروح وقائم؟