فضيلة الشيخ/ سلمان بن فهد العودة - نقلا عن موقع الاسلام اليوم لَمْ أشأْ أن أجعل عنوان مقالتي هذه " دعوة للمصالحة " خشية أن يُفهم من هذا إلغاء جوانب الاختلاف ، لأنه قد يوجد ما يدعو للاختلاف في أمور الشريعة أو في مصالح الدنيا ، فالاختلاف سنة إلهية ولا حيلة في دفعها ، بل لو لم يوجد الاختلاف لكان ذلك تفويتاً لكثير من المصالح والخيرات ، وقد امتنّ البارئ جل وعز بتنوّع ألسنتنا وألواننا وسائر أشيائنا . التصافي يعني استثمار الاختلاف إيجابياً ، عوضاً عن أن يتحول إلى تحضير للصراع واستعداد للنزاع . التصافي يعني أن تجتمع القلوب وإن لم تجتمع العقول . التصافي يعني تفعيل " الأخلاق " على أكمل الوجوه ، وليس تفعيل "المعرفة" فحسب . قد تقتضي المعارف والاجتهادات أن نتفاوت في مواقعنا ورؤيتنا ومواقفنا وتحالفاتنا ولكن الأخلاق تقتضي أن لا تتحول نتائج المعرفة والاجتهاد إلى قسوة على النفس ، بالقسوة على أحبتنا ، وقد قال ربنا سبحانه : " (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)(النور: من الآية61). التصافي يعني الاهتمام الكبير بدوائر المتفق عليه ، والعناية بالمشتركات الإنسانية وهي ضخمة ، والمشتركات الإيمانية وهي ضخمة أيضاً ، ولهذه المشتركات من الحقوق الشيء العظيم الذي قرّره القرآن ، وأكدته السنة ، وعززته التجارب الإيجابية والسلبية معاً . التجارب تصيح بنا أن نتحالف ونجتمع على القواعد الكلية والمشتركات الشرعية والمصالح الحياتية . وألا نتجاهل الخلافات سواء كانت جوهرية أساسية ، أو كانت جزئية فرعية ، لكن لا نجعل الإحساس بهذه الخلافات هو الذي يتحكم في عقولنا ، ويسيطر على عواطفنا وقلوبنا ، ويؤسس لعلاقاتنا البَيْنيّة ؛ لئلا تتحول العلاقات إلى حروب ومكايدات وتقارير سلبية يرفعها القلب للعقل ، ثم يفيض بها العقل للسان واليد والقلم . الحياة ليست معركة . التصافي هو الاختلاف الهادئ ، والاتفاق الأصيل . التصافي هو الخلق الكريم ، والمعرفة المحققة . التصافي هو الفصل بين حق العلم وبين غرور النفس ونزقها وشيطنتها وكبريائها وأنانيتها . التصافي هو الانتصار في معركة الصراع الأولى ، الصراع مع أهواء النفس الخفية ، ودوافعها الباطنة ، وشرورها المترسخة ، والتي تظهر أحياناً بهيئة الخير والإيمان والغيرة والصفاء ويصعب على صاحبها ملاحقتها وكشف ملابساتها وتمشيط جيوبها الخفية المتغلغلة في " العقل الباطن " ، (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:7،6) . وسبحان العليم بمداخل النفوس ومساربها والمطلع على خفاياها وأسرارها (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19) . الصفاء مكاشفة مع النفس ، وتمرد على أحكامها الجائرة ، وأمراضها المسيطرة ، وإيحاءاتها المدمرة . التصافي كشف لعيوب الذات ، وتواضع لرب الأرض والسماوات ، وطلب للمغفرة بحفظ مقامات الآخرين وحسن الظن بهم ، وتسامح مع زلاتهم حتى حين تكون زلاتهم إجحافاً في حقك أو عدواناً عليك أو قسوة مفرطة أو ظلماً طويلاً ممتداً لا عدل معه ، ولا تراجع . التصافي إدراك جيد بأن الكلام سهل والفعل ليس كذلك ، فلِكي نتجاوز المرحلة المتخلفة في واقع أفرادنا وجماعتنا وتياراتنا ومجتمعاتنا ودولنا نحتاج إلى الرقِيّ الفردي ، والتفوق على ال " أنا " ، وتجاوز الحظوظ الذاتية ، نحتاج إلى مبادرات نبيلة من هذا النوع هنا وهناك ، تتجاوز الأتباع والمريدين ، والمصالح الخاصة لتكون تأسيساً حقيقاً لمستوى من التجرد والصدق يسعى إليه الجميع . دعونا جميعاً نردد (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(الحشر: من الآية10) ، ودعونا نردد مع الشاعر قوله : تَعالوا بِنا نَطوي الحَديثَ الَّذي جَرى وَلا سَمِعَ الواشي بِذاكَ وَلا دَرى تَعالوا بِنا حَتّى نَعودَ إِلى الرِضى وَحَتّى كَأَنَّ العَهدَ لَن يَتَغَيَّرا وَلا تَذكُروا ذاكَ الَّذي كانَ بَينَنا عَلى أَنَّهُ ما كانَ ذَنبٌ فَيُذكَرا لَقَد طالَ شَرحُ القالِ وَالقيلِ بَينَنا وَما طالَ ذاكَ الشَرحُ إِلّا لِيَقصُرا مِنَ اليَومِ تاريخُ المَحَبَّةِ بَينَنا عَفا اللَهُ عَن ذاكَ العِتابِ الَّذي جَرى فَكَم لَيلَةٍ بِتنا وَكَم باتَ بَينَنا مِنَ الأُنسِ ما يُنسى بِهِ طَيِّبُ الكَرى أَحاديثُ أَحلى في النُفوسِ مِنَ المُنى وَأَلطَفُ مِن مَرِّ النَسيمِ إِذا سَرى وتعالوا بنا نردد : مِنَ اليَومِ تَعارَفنا وَنَطوي ماجَرى مِنّا وَلا كانَ وَلا صارَ وَلا قُلتُم وَلا قُلنا وَإِن كانَ وَلا بُدٌّ مِنَ العَتبِ فَبِالحُسنى فَقد قيلَ لَنا عَنكُم كَما قيلَ لَكُم عَنّا كَفى ما كانَ مِن هَجرٍ وَقد ذُقتُم وَقَد ذُقنا وَما أَحسَنَ أَن نَر جِعَ لِلوَصلِ كَما كُنّا إنني أدعو جميع المخلصين لكلمة سواء ، بعيداً عن صخب الجماهير وضجيجها وضوضائها وإسقاطاتها . دعونا نتناول عبارات الاعتذار عمن أخطئوا علينا وأساءوا الظن بنا ، وليس أن نطلب منهم أن يعتذروا .. (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)(النور: من الآية22) .