كانت تجربتي التي أحاول سردها اليوم، في حكم الاستحالة على النشر قبل خمس سنوات أو أكثر حين كان الجميع يومها أسرى للاحتقان الفكري وضحايا لبرمجة التفكير المتخندق في الزوايا المذهبية وخلف متاريس المدارس المتقابلة التي لم بتن سدودا فاصلة بين الأطياف الوطنية المختلفة فحسب، بل عمقت في دواخلنا خارطة وطن متجزئة وكان من يعبر أو يحاول امتطاء صهوة هذه السدود يلقى مباشرة تهم التمييع والتخوين وانظروا إلى ابتلاء سلمان العودة في صورته الشهيرة، آنذاك، برفقة حسن الصفار أو زيارة عوض بن محمد القرني إلى ديوانية بالقطيف بكل ذيول الصخب التي تحملها الاثنان في خطوة شجاعة. في الليلة الثانية لوجودي بعزيزتي – الأحساء – مشاركا بطاولة الحوار الوطني، دعيت إلى – عشاء نقاش - لمجموعة من الإخوة الكرام، من الصاعدين ومن المؤسسين الأصل لثقافة وفكر المكان الحديثين، وهل يمكن لقلمي أن يكسر المحظور ليجرؤ أن يكتب اليوم أن الدعوة كانت من نفر من الطائفة الشيعية العربية السعودية المسلمة. كنت بالوهم الكاذب أظن أن قبول الدعوة يستدعي أن أعبر جسورا متعددة كي أصل للخطوة الأولى من بدء نقاش الاختلاف والخلاف وكنت أظن أنني بقبولي للدعوة إنما أدخل منطقة ضبابية تتقلص فيها أمام عيناي وتتدنى أمامها درجة الرؤية إلى مسافة ذراع وإذا بي أكتشف أن الوهم أقصر حتى من المسافة ما بين الفندق والمنزل. شكرا مرة أخرى لطاولة الحوار الوطني التي كسرت حواجز الوهن بين هذه الأطياف وأجبرت الجميع بالحوار والاختيار على وجود الجميع سواسية اعترافا بخارطة وطن. وحين استهل شاعر الأحساء الشاب أحمد المسلم مساءنا بقصيدة وطنية مدهشة، بدأت تلال الظنون المسبقة تذوب وأنا أكتشف في مجاور لي على مشارف الخمسين، من ذات الطائفة، وما زال ينافح عن الأفكار القومية العروبية وكأنه في صباح المد الناصري لا في مساءات زمن الظواهري أو السيد حسن نصر الله. وحين يدور الحديث تنبئ السهرة عن تجلية لمواقف الشك. سيظل القاسم المشترك الأبرز فيما بيننا أننا نبني وطنا بغض النظر عن وجهات نظرنا في التباينات والاختلاف حول بقية الأشياء. قلت لهم إنني فخور في كل مكان بابن وطني البار من الطائفة الشيعية الذي تصدر مهمة التصدي لأبرز مشروعين في العقد الحديث وما زلت مؤمنا أن هذين المشروعين بالتحديد يأتيان على قمة الأولويات والأوليات في المنجز الوطني على المجالين الفكري والتنموي. المواطن الصالح هو المواطن المؤمن بشرط التنسيق والتصالح مع الذات من أجل المصالحة الوطنية العليا. وحينما كان ابن وطني من الطائفة الشيعية يهمس في أذني بالعتب على بعض مواقفي من الرموز التي يراها في طائفته في بعض كتاباتي أو آرائي في بعض الحوارات والمحاضرات أشرت له بصوت عال أن العتب لا يستحق الهمس على حساب الجهر فلا شيء لدينا لنخفيه. فمثلما كتبت عن السيد حسن نصر الله وحزب الله هو مثلما كتبت عن تنظيم القاعدة ومنظريه ولو أنك ابن وطني من هذه الطائفة وضعت ما كتبت في الفريقين على الميزان لاكتشفت أين ترجح الكفة. كل الموضوع أن لدى صاحبي هواجسه المبنية على شعور مفرط بالحساسية، وهو بالتأكيد حق نفسي لكل الأقليات في قلب الأكثريات ولكنه إحساس لا يتناسب مع المنطق والواقع عند القياسات العقلانية الحقيقية. قلت له إن الكتابة لدي عن مقتدى الصدر هي ذات الكتابة عن رموز الإخوان المسلمين فأنا لا أحب المدرسة التي تقفز على الولاءات الوطنية نحو الولاء الأممي لأنها تصادر أغلى ما بداخلي عن الانتماء لوطن، فلماذا هذه الحساسية عن الحديث عن الصدر دون أن تقرأ لي اليوم السابق أو الذي يليه. وحتى على صعيد المنجز التنموي المادي البحت لابد من تجلية القلق وتبديد الإحساس بالغبن دون القراءة العاقلة للمكتسبات بالمقاربة والمقارنة. وإذا اشتكى صاحبنا إهمال بلدية الأحساء، مثالا، فليأت إلى جازان أو ليذهب إلى الرس أو حتى جدة حيث الكارثة تتحدث بالنيابة لأن الخطأ الإداري أفدح من أن ننسبه إلى إهمال مكان أو تفضيل مكان على الذي يليه لسبب طائفي ومثل هذا التبرير مجرد سباحة مع الحساسية. لا يمكن لصاحبي وابن وطني من هذه الطائفة أن يقرأ إلا في السياق العقلاني الصحيح أن الجامعة كانت في الأحساء منذ ثلاثة عقود تسبق أبها والقصيم وأن البنية التحتية في القطيف أقدم بعقود منها في خميس مشيط أو في بحرة النائمة في قلب أكبر مدينتين. وحتى حين تكبر الظنون بأي من أصحابي هناك حول توزيع النخبة الإدارية على المناصب العليا وأماكن القرار الوطني التنفيذي فإنني لا أجد أفضل من جواب إلا أن أحيله إلى العشرات من كتاباتي في نقد هذه الممارسة قبل أن نتجادل بابتسامة ونحن نستعرض أسماء – المعالي – من الطرفين فأكملت له تعداد أصابعه العشر من مكانه فما زلت حتى اللحظة مع – مكاني – بإصبع واحدة. كل الفارق ألا ننظر للأمور بحساسية تعمي الجميع عن قراءة الأشياء بعقلانية تبتعد عن الإطار الواقعي. ثم إن الحقيقة تبقى في أن الثوابت الوطنية هي ما يبقى كأعظم القواسم المشتركة وهو ما اكتشفناه بجلاء واضح وكم خرجت سعيدا جدا جدا جدا أن كثافة الأدلجة في الطرفين لم تختطف فينا روح الوطن وخريطته ورموزه وهمومه المشتركة وسالب مسيرته وموجبها ونحن الذين نعترف اليوم على طاولة الحوار الوطني، ومن الطرفين، كم هي الكثافة الأدبية التي حاولت نزع الولاءات ومع هذا كانت المفارقة: كان يحمل في جيبه مثلما أحمل في جيبي بالصدفة أيضا جواز سفر لوطن ضخم اسمه المملكة العربية السعودية.